"ميرميّة" تروي قصة شعب وقضية
كتب خضر برهم - عندما تذهب لمشاهدة مسرحية تتحدث عن اللاّجئين والتهجير، تبدأ برسم صورة في ذهنك عن هذا العمل، متخيلاً بشكل مسبق الاحداث وكيف سيتم سردها أمامك على الخشبة، وكيف ستشاهد المفتاح وستسمع عبارات حق العودة، وسيحاول هذا العملُ جاهداً لدفعك الى التعاطف مع القضية الفلسطينية مستخدماً كل "الكليشهات" الممكنة التي اعتدنا عليها، وأقول مللنا منها، كي ينجح "على الاقل لدى جزء من الحضور". اذا كنت تتخيل ذلك وأنت تذهب لحضور "ميرميّة"، عمل مسرح الحارة الجديد، فانت مخطئ! وعليك أن تغيرَ وجهة نظرك فورأ. ونحن نأخذ اماكننا في مدرج مسرح مؤسسة الرئيس بوتين الفلسطينية، كان كلاًّ من "فاتن خوري ونيقولا زرينة"، ممثلا العمل، على الخشبة، ترتدي الاولى زياً فلسطينياً جميلاً جداً، ويرتدي الثاني لباساً عادياً دون الكوفية لكنّه بدا قديماً، كان على الخشبة أيضاً جدار من الحديد والشيك وشجرة زيتون، وقبل كل هذا "بابور" قديم تغلي عليها "الميرميّة" البطلة، وانطلق العمل. في البداية تعرفنا على ستِّ شخصيات لاجئة فلسطينية، من هم ومن أين اصلهم قبل التطهير العرقي الذي حل بهم وبقراهم، بعدها بدأ الممثلان بالدخول الى الحدود التي رسمتها لهم مخرجة العمل، دخلا الى ارض محددة مليئة بالتراب " أرض الوطن"، كانوا قبل دخولها شيوخاً وما أن وطأت اقدامهم التراب حتى عادوا شباباً ليصحبوننا في رحلة الى قراهم، وكيف كانت الحياة الفلسطينية البسيطة والجميلة قبل النكبة، ويعرفوننا على ما بدأنا ننساه، وعن أماكن لن تُمحى من الذاكرة. العمل الذي بدأ بإيقاع بطيء كان الهدف منه هو التمهيد لما سيحدث لاحقاً، فبعد أن تعرفنا على طباع أهل المناطق الفلسطينية قديماً، وعن التعليم والعادات والتقاليد والكرم والشعائر الدينية، ننتقل مباشرة الى اجواء متوترة وتحت القصف، وهنا وصلت المسرحية قمّتها عندما بدأت عمليات التطهير العرقي للمناطق الفلسطينية، لقد استطاع الممثلان أن ينقلا المشاعر والاحداث التي طرأت على الشخصيات الست، ترافق ذلك مع أصوات القصف الذي أعاد ذاكرة كلٍّ منا الى تجربة عاشها في زمن مختلف وظروف مختلفة، مما جعل هذا المشهد أفضل مشاهد العمل. إن تحويل كتابٍ الى مسرحية هو لا شكّ واحد من الامور الاكثر صعوبة، وقد بذلت مخرجة العمل "ميرنا سخلة" مجهوداً كبيراً وواضحاً لكي تحول "ذاكرة حية" لـ الدكتورة فيحاء عبد الهادي الى عمل ينبض بالحياة، لقد كان وكأنه نصٌ كاملٌ كُتِبَ بالأساس لمسرحية، وتعاملها مع توزيع الأدوار واكتفائها بتقديم ست شخصيات على لسان ممثّلَينِ اثنين كان خطوة ذكية، فهي في النهاية حكاية الكل الفلسطيني، الذي عاش وما زال يعيش أثر تلك الفترة. لقد ساهم الديكور المصاحب للعمل بإيصال الرسالة بشكل أقرب للمتلقي، واستخدام صور الشخصيات الاساسية كان مهماً لي كمشاهد، كي اربط الخيال مع الواقع، ما عاب العمل قليلاً هو كثرة الاغاني، فرغم جمالها، كنت بحاجة الى لحظات من الصمت، وكان بالإمكان الاستغناء عن البعض منها في بعض المشاهد، فقد كانت تعابير الممثلين والنص كافيةً لنقل ما يلزم للمتلقي دون تدخل موسيقي غيرِ محبب. أما إضاءة العمل فكانت مناسبة، ولكنني لاحظت أنه يمكن تحسينها في بعض المشاهد، لانني كنت بحاجة الى مشاهدة الممثلين بوضوح اكبر، كي أستطيع أن أرى التعابير على وجههم، والتي كانت مهمة في هذا العمل تحديداً. وعندما تم إضاءة صور الشخصيات على الجدار، التي عندما تم قلبها كشفت عن الملصقات التي حملت سنوات النكبة، كانت الإضاءة بنفسها بطلة، حيث حملت الصور لفتةً ذكيةً كي تذكرنا بالوقت الذي يمر ونحن نعد السنين وننتظر الأمل. أمرٌ اخر كان ملفتاً، هو تحديد عمر المشاهد بخمسة عشر عاماً وأكثر، كنت أود ايضاً للأعمار الأصغر أن تكون حاضرة في هذا العمل، الذي يتحدث عنا وهدفه ابقاء هذا التاريخ حياً ليس فقط في ذاكرة من رواه، بل في ذاكرتنا. على أطفالنا أن يعرفوا ما حدث في "كوكبا" وفي "صفورية" وفي "عراق المنشية"، عليهم أن يعرفوا هذا التاريخ ويحفظوه كي نضمن أن يبقى هناك جيل يتناقل التاريخ الحقيقي دون تشويهات الاحتلال المستمرة. إن اختيار اسم "ميرميّة" للعمل أثار استغرابي في بداية الامر، لكن بعد متابعة المسرحية والاندماج فيها أصبحت الحكاية أوضح، لقد روت "ميرمية" قصة شعب وقضية واكدت أننا بحاجة للمزيد من هذه الاعمال التي توثق تاريخنا الفلسطيني، الذي بدأت ذاكرة البعض تنساه، ولهؤلاء منا نحن الذين ما زلنا نعيش تبعات ما حدث فقد كانت "ميرمية" سبباً اضافياً كي نصر أكثر على ان من يملك ارضاً مثلنا، وشهادات كهذه، ومعه الحق، فإنه حتماً سيعود يوما ما.