منذ 7 سنوات
غداً تقام الجنازات في مهرجان الصمت!!
حجم الخط
شبكة وتر- عيسى قراقع- لقد أصبح مرض السرطان يحاصرني حتى الجنون، وصرت أتعاطى مع الحياة بجرعات منقوعة بشهقات الموت حتى أصبحت الروح منهكة تسبح في فضاء المجهول، والجسد هنا في السجن فوق صفيح الليل البارد وجمر المرض الحارق، وأصبحت وجها لوجه مع الموت أصارع مرض السرطان وحيدا اكثر واكثر كلما تأخر العلاج حتى يأتي على الخلية المليون في جسدي.
هذه كلمات الأسير المريض بأورام سرطانية في الرئة، موسى صوفان، سكان طولكرم، والتي اطلقها صرخة موجعة من سجن عسقلان، وقد شارك في الأضراب الأخير عن الطعام، فانفجرت عنده الرئة في اليوم الثامن عشر للاضراب.
الأسير موسى صوفان المحكوم بالمؤبد، والمسافر سنة وراء سنة، وليلا وراء ليل حشرا ومرضا ورجاء يمثل مئات الأسرى المرضى الذين يصارعون الموت، يتعكزون على بقايا أرواحهم المحطمة، يحاولون ان يؤجلوا موتهم قليلا لعل هناك من يقرع الباب، أو يصرخ بصوت أعلى كي تتحرك هذه اليابسة بكل ما عليها من مؤسسات دولية وحقوقية أو يهيج البحر بكل ما فيه من غضب ورياح.
هي آلام تتفاقم وتتسع في أكثر من ثلاثة وعشرين سجنا ومعسكرات وزنزانة ، وخلف تلك الجدران العالية والأسلاك الشائكة يحتجز أسرى الحرية ، وتمتد اكثر لتنغرز في جسد وطن يحاصر ويعذب ويضيق ، ويصير كل شيء من حديد ورصاص وحفر وحواجز وإختناق بين شارع ومستوطنة، يسقط الناس كالغبار.
في مهرجان الصمت هذا ، يسقط الشهداء في السجون والشوارع وعلى أسطح المنازل، يسقطون قهرا وتعذيبا ومرضا وانتظارا ولا أحد يصل، وأن وصلوا يحتجزوا في ثلاجات الموتى الاسرائيلية أو يبعثروا في قبور الأرقام السرية، كل شيء مرهون للموت في الدنيا والآخرة.
لم يزرهم أحد ، فالاحتلال الذي وصل الى أعلى درجات الفاشية والتطرف لا يسمح للجان تحقيق دولية من التحقيق في ممارسات الاحتلال بحق الأسرى بالسجون، لم يتطرق مجلس الأمن ولا مرة الى الجرائم المنظمة البطيئة التي تجري خلف القضبان ، لم تناقش الجمعية العامة للأمم المتحدة انتهاكات سلطات الاحتلال لقواعد القانون الدولي وللاعراف الطبية والانسانية الملزمة لها بتقديم العلاجات للاسرى المرضى.
في السجون حرب لم تتوقف منذ سبعين عاما، والكاميرا لم تكشف عن الدماء النازفة والصرخات التي تهز الكون من الأسرى في مستشفى الرملة الاسرائيلي، خالد الشاويش ومنصور موقدة وبسام السايح ومعتصم رداد وناهض الأقرع ويسري المصري ومحمد براش واحمد ضراغمة وجلال شراونة وسامي أبو دياك ويوسف نواجعة وغيرهم.
لم يستطع أحد أن يساعد المعاقين والمشلولين والمصابين بالرصاص، المبتورة أقدامهم ، المشطورة أجسامهم، الناقصون أطرافا، القابعون في غرف العناية المكثفة تحت أجهزة التنفس والتخدير، أو المرضى نفسيا وعصبيا التائهين بكلامهم وأحلامهم المحتجزين في الزنازين، لا دواء ولا رعاية اجتماعية، مخدرين بالمهدئات ، نائمين كالأموات.
غدا تقام الجنازات في مهرجان الصمت، ويتحرك عدّاد الشهداء كما تتحرك الأمراض يوما يوما وتتصاعد أجسام الأسرى، وخلال تشريحهم سنشاهد المذبحة، لا فحوصات دورية، لا تشخيص للأمراض، لحم متآكل وخلايا ميتة، شرايين مغلقة بالغاز المسيل للدموع، لا هواء في القصبة، جروح هنا وآثار ضرب هناك ، كيف عاشوا وكيف صبروا وكيف تحملوا؟
غدا تقام الجنازات في مهرجان الصمت، لم اسمع بمحاكمة دولية على انتهاك أطباء سجون الاحتلال للقوانين الانسانية ولقسم أبو قراط الطبي ولكل المعاهدات التي تلزمهم القيام بواجبهم في علاج الأسرى المرضى، عندها لا يكفي كيس اسود او تشييع صاخب، لا يكفي أن تقول ان دولة اسرائيل دولة بلا أخلاق ، دولة فوق القانون، فالكيس الأسود اصبح مصير الجميع، راية سواء تلوح في افق الشرق الأوسط.
هذه سجون أم مسارح للهول والموت؟
ما أفجع ان نتحول الى طرائد لهذا المحتل تتزاحم حول بعضها ترتل أوجاعها، كل شيء يقول وداعا ، يغلقون باب القبر كباب السجن، يغلقون باب البيت وباب المدينة، يغلقون احلامنا وامنياتنا ويحشوننا بالأورام ، يفجرون أجسامنا وركبنا وجماجمنا ويستمتعون.
الفساد المستشري لدى زعماء دولة الاحتلال، ينقذف جرائم في وجهنا، الفاشية المتنامية في اسرائيل تنقذف رعبا وتشريعات تعسفية في وجهنا، امراضهم النفسية والعسكرية والفكرية تفضحها هذه الحرب الدائرة داخل السجون.
غدا تقام الجنازات في مهرجان الصمت، ولا اعتقد ان أحدا سيناقش مشروع وقف مخصصات الأسرى والشهداء، فالكل غائب، ولا أعتقد أن أحد سيناقش ان كان هؤلاء الأسرى هم أسرى حرية أم إرهابيين بالفعل، فالكل غائب، ولا اعتقد أن أحدا سيناقش القانون الاسرائيلي بإعدام الأسرى، الكل غائب، ولا اعتقد أن أحدا سيناقش دبلوماسيا وقانونيا الدعم الرسمي الاسرائيلي لمنظمات الإرهاب اليهودية ،الكل غائب، الكل مصاب بهذا الورم الخبيث، الكل يتوجع ، الكل يبحث عن شفاء وخلاص أخير .
الأسير موسى صوفان يناشد ان نوقف مرضه السرطاني، هو خائف ان ينتشر ويصل الى وسط مدينة رام الله والخليل، ان يتفاقم ليصل القدس وبوايات المسجد الأقصى ، هو خائف ان لا يجد طريقا الى مسشتفى المقاصد أو قبرا لائقا تحت شجرة لوز أمام بيته في طولكرم، هو خائف من هذا الاغتراب السياسي الوطني، هو خائف مما هو اسوأ من الموت.
الأسير المريض موسى صوفان ، يقف أمام بوابة سجن عسقلان يقول كلماته الأخيرة:
اغفروا ما تقدم ايها الصامتون وما قد تأخر مما فيّ من ملح وماء!
قبور كثيرة تحوم حولي في هذا الفضاء
صفاء العشب ، خواطري البريئة
اكوام ورد لا أراها على الأرصفة
قليل قليل من هواء
قليل قليل من غناء