في الذكرى الـ23 لاستشهاد أبو علي مصطفى.. حديث لم يُنشر بعد (1-9)
شبكة وتر-بيت لحم
• القهر والفقر اللذان تعرض لهما الشعب الفلسطيني بلورا فكري السياسي
• أي حـزب ثــوري يـنـبغـي أن يطـمـح للسلـطـة لتـطـبــيــق برنــامـجــــــه
• واقع الهمّ الفلسطيني كان دافعاً لانخراطنا مبكراً في العمل السياسي
• الشباب هم مَن حافظوا على زخم الحركات السياسية واستمرارها
أجرى اللقاء: إبراهيم ملحم
ضيفنا في هذا الحوار ضيفٌ خارج النص. فهو يقف -منذ حملَ عبء النضال- في الجانب الآخر. في الجانب المختلف.. المختلف في مواقفه، وفي حياته أيضًا.
إنه الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الأخ أبو علي مصطفى، ذلك الذي دخل السجن في عمر الورود، وكان من أوائل من أسسوا العمل الفدائي، ومن أوائل من أسسوا الجبهة الشعبية.
رجلٌ اختار منذ بداية حياته أن يعمل في الخفاء، وأن يدفع ثمن هذه الحياة، إنه أبو علي مصطفى الذي شغل منصب نائب الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين منذ تأسيسها، ثم أصبح أمينها العام، كما شغل عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وعضوية المجلس الوطني الفلسطيني.
هذا الرجل الذي اختار أن يعود إلى الوطن ليُمَحِّص الشعار بالواقع، ويطبِّق الفكر على التجربة، كل ذلك ضمن اختلاف في الأفكار والمنطلقات والأسلوب.
أخ أبو علي أهلاً وسهلاً بك.
أهلاً وسهلاً أخي إبراهيم.
• هلَّا حدثتنا عن طفولتك في بلدة «عرابة»، مسقط رأسك، وشأنها حينئذٍ شأن كافة القرى والريف الفلسطيني في الخمسينيات، إذ تسود العشائرية والفوارق الطبقية... وإلى أي مدى أثرت هذه البيئة على توجهاتك في الحياة وعلى تحديد مساراتها منذ حداثة سنك؟
- في تلك السن المبكرة آنذاك كان البروز الأكبر للعامل السياسي في الصراع مع العدو الصهيوني، فعندما وقعت النكبة في العام 1948 كان عمري عشر سنوات. إن حالة النكبة والهجرة والحرب التي سادت آنذاك، كان تأثيرها السياسي على جيلي يفوق وعينا بالمسائل الطبقية؛ فقد تبلور الوعي بالمسألة الطبقية أكثر فيما بعد الخمسينيات، إلا أن هذا لا ينفي أن هناك واقعاً مجتمعيّاً فلسطينيّاً، ففلسطين شأنها شأن كل المجتمعات على مر العصور: فيها الأغنياء والفقراء، الملَّاك وغير المُلَّاك، وخاصة في الريف الذي كان يحوي غالبية المُلَّاك. ففي قريتي «عرابة» كانت غالبية الأراضي مملوكة لآل عبد الهادي، باعتبارها العائلة صاحبة النفوذ الأكبر، والأملاك الأكثر، وأما بقية الناس فيمتلكون قطعاً صغيرةً يعتاشون منها، أو يحصلون عليها بالمحاصصة، وأحياناً بالضمان.. إلخ.
هذا، لا شك، وضعٌ جديرٌ بإيجاد الفوارق، وهو أمر طبيعيٌ في مجتمعنا، ومثله كل المجتمعات التي تعيش هذه المرحلة، لكن كما ذكرت أن أكثر شيء أثَّر فينا في تلك السن هو مشهد النكبة، ولا يزال في ذاكرتي حتى الآن: تركنا المدارس، وخرجنا بمظاهرات نطالب بتحرير فلسطين، وسمعنا أن الجيش العراقي يتحرك على خط نابلس - جنين، التقينا مع الجيش العراقي على مفرق «عرابة - جنين – نابلس»، لقد أثر هذا المشهد فينا كثيراً، وقد كادت جنين آنذاك تسقط في يد قوات الهاجاناه، إلى أن أُنقذت في اللحظات الأخيرة على يد الجيش العراقي. وفي المشهد الآخر نرى المتطوعين والمجاهدين العرب وقوات الإنقاذ، وكل من كان يحمل بندقية أو يستطيع حمل بندقية، يركض باتجاه جنين لخوض المعركة ضد قوات الهاجاناه، ولم تكن تسمى آنذاك «قوات جيش الدفاع الإسرائيلي»، كانت تسمى «الهاجاناه».
أثَّر هذا المشهد فيَّ وفي أبناء الشعب الفلسطيني، الأمر الذي جذبنا كثيراً للشعار الذي شدَّنا للانتماء بوعي في سن متقدمة، بالضبط بعد النكبة بسبع سنوات، تحديداً في العام 1955، وهو شعار «الثأر». كانت هذه النشرة توزع أيامها في عمان، تحمل صورة قبضة ترفع بندقية وطاسة حرب، وتحتها كلمة «الثأر». كانت ترمز لفلسطين، وتنادي في الشباب بالانضمام إلى حركة القوميين العرب، صاحبة هذه النشرة، كانت تحمل توقيعًا باسم «هيئة مقاومة الصلح مع إسرائيل».
• في أي عامٍ جرت هذه الأحداث؟
- في العام 1955، وكانت النشرة تصدر قبل هذا التاريخ، لكنني تعرفت عليها للمرة الأولى في عمان في العام 1955. كانت الظروف الاقتصادية والاجتماعية وقتها تحول دون انتشار المدارس الثانوية، وكلها عوامل فرضت انتقالي لعمان، وهكذا كان عليَّ أن أعمل وأدرس في الوقت نفسه.
وكان هذا جاذباً للانتماء السياسي، وشهدت بلادنا في ذلك الوقت بداية صعود نهضوي للحركة الوطنية على يد ثلاث قوى سياسية رئيسة: الحزب الشيوعي المعروف امتداده التاريخي من عصبة التحرر في فلسطين، وحزب البعث العربي الاشتراكي، وحركة القوميين العرب.
كانت هناك حركات إسلامية، لكن لم يكن لديها زخم يجذب هذه الأعداد من الشباب إلى عنوان فلسطين، كان العنوان الطاغي في الحركة السياسية -مهما كان مسماها- هو عنوان فلسطين، كان هذا عاملاً جاذباً ومؤثراً في بداية التكوين السياسي لي شخصيّاً، ولكثير من شباب جيلي، كنت آنذاك بعمر 17 عاماً.
• ألا تعتقدُ أن دخولك إلى معترك السياسة في هذا العمر كان دخولاً مبكراً؟
- إذا نظرت في تاريخ القوى والحركات السياسية التي نشأت في المنطقة إجمالًا -باستثناء صفٍّ قياديٍّ معين- فإنك تجد أن من حافظ على زخمها واستمراريتها هم الشباب، فقد كانوا بمثابة الدماء في عروق هذه الحركة السياسية. كانت الجامعات في الخارج مدارس لتخريج القيادات السياسية، ووافق بزوغ حركة القوميين العرب –ولم أكن من مؤسسيها- دخولي مرحلة الشباب، ما أهَّلني للانتساب إليها. بدأت الحركة بجمعية «العروة الوثقى» التي كانت جمعية طلابية، والجمعية الطلابية تقبل من كانت أعمارهم 18 عامًا فما فوق؛ وهذا يعني أن قائد الحركة لا بد أن يكون شابًّا. يبدأ العضو بالانتساب إلى جمعية «العروة الوثقى»، ثم ينتقل إلى كتائب «الفداء العربي»، ثم حركة «القوميين العرب»، كل هذا كان مواكبًا لسنوات الدراسة الجامعية (المرحلة العمرية ما بين 17 عامًا و23 عامًا)؛ أي أن الفئة التي كانت تقود الحركة كلها من الشباب، فما بالك بالأعضاء!
إن واقع الهَمّ الفلسطيني كان دافعًا لنا أيضًا للانخراط في العمل السياسي، ولو كان همُّنا الفلسطيني مختلفًا، لربما تأخر التحاقنا بالحركة السياسية لسِنٍّ أخرى؛ لكن الواقع الفلسطيني لم يدع لنا خيارًا.
• هل وضعك الاجتماعي كان له أثر في التحاقك المبكر بحركة القوميين العرب؟
- بالتأكيد، فقد كان لشعورنا الدائم بالظلم والقهر والغبن الذي يُمارَس على الشعب الفلسطيني، سواء كان سياسيًّا أو اجتماعيًّا، أقوى الأثر في التحاقنا بالحركة. انتشرت آنذاك ظاهرة المخيمات واللجوء، وكانت هذه الظاهرة أكبر مشهد فقرٍ في الوطن العربي: مواطنٌ يعيش في بلده عزيزًا كريمًا، يحيا حياةً مستقرة ودخله لا ينقطع، ثم فجأةً يخرج منها خاوي الوفاض. هذا المواطن صار لاجئًا فانتقل إلى الحياة في الخيام، مشهد من آلاف الخيم الممتدة، والأرجل التي لطخها الطين، والوقوف على أبواب المؤسسات الإنسانية -التي ستنشئ وكالة الغوث- حتى تأخذ كيس طحين، أو علبة بسكويت، أو شيئًا من هذا القبيل... امتزج مشهد التشريد بمشهد الفقر وتداخلا حتى كانت لهما اليد الطولى في التكوين الفكري والسياسي لي شخصيًّا، ولجيلي تقريبًا. كنا في عمان نسكن في أحياء فقيرة، حتى أنها كانت تسمى «أحياء الصفيح»، لم يكن أسوأ منها إلا المخيم. وأذكر أنه كان في عمان حي شعبي فقير يشتغل أهله بالعمل اليومي، اسمه «وادي سرور»، لكنه لم يعد موجودًا الآن. لا شك أن العامل السياسي والعامل الاجتماعي أثَّرا في نشأتي الفكرية والسياسية.