شبكة وتر-بقلم: ًعائشة البصري ً في دارفور، وفي جبل مرة تحديداً، تنسلخ ثم تتساقط جلود الأطفال مثلما تنهار القنابل على رؤوس الكبار. يصرخون من الآلام. جروح أكبر من سنهم. يتقيأون دماً ثم يختنقون حتى الموت. إنه الموت بالكيميائي.
بهذه العبارات وصفت السيدة تيرانا حسن، مديرة برنامج «الاستجابة للأزمات» بمنظمة العفو الدولية ما شاهدته: «الصور وأشرطة الفيديو التي شاهدناها خلال بحثنا صادمة تماماً، يظهر في واحد منها طفل يصرخ من الألم قبل أن يموت، وتظهر صور عديدة أطفالاً صغاراً عليهم آثار تقرحات وبثور. وكان بعضهم غير قادراً على التنفس ويتقيأ دماً».
جرائم أخرى قد ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وثّقتها هذه المرة منظمة العفو الدولية في تقرير صدر عنها أخيراً تحت عنوان «أرض محروقة وهواء مسموم». تقرير مرفق بصور مروعة تظهر آثار استخدام قوات الحكومة السودانية الأسلحة الكيميائية في 32 هجوماً راح ضحيتها هذه السنة ما يناهز 250 مدنياً، أكثرهم من الأطفال، وفق المنظمة الحقوقية.
أطلعت منظمة العفو خبيرين دوليين في مجال الأسلحة الكيميائية، كل على انفراد، على المقابلات والأدلة المصورة المتعلقة بالهجمات الكيميائية وخلص كلاهما «إلى أن الأدلة تشير بقوة إلى التعرض لمواد حارقة للجلود، أو مواد مسببة للبثور، مثل مواد الحرب الكيميائية، كخردل الكبريت، واللويزيت وخردل النيتروجين».
على عكس محرقة الغوطة السورية في صيف 2013، فإن ضحايا القصف الكيميائي في دارفور لم يحظوا حتى الآن ولو بقليل من النفاق الدولي. فلم يعبر بان كي مون عن هلعه أو صدمته أو حتى عن قلقه المعهود. ولم يتفوه أوباما بحرف واحد، هو الذي وعد مناصري دارفور خلال حملته الانتخابية لسنة 2007 بأنه إذا انتخب رئيساً فإنه لن يغض الطرف عن أي مجزرة هناك. وباستثناء فرنسا والاتحاد الأوروبي اللذين يريدان تحقيقاً في الموضوع، يخيم الصمت تجاه تقريرٍ لو تعلق بأي دولة غير أفريقية سوداء لقامت عليه الدنيا وما قعدت.
غضت الحكومات الغربية الطرف عن دارفور وأدخلتها حيز الأزمات المنسية منذ 2008، حين أرسل مجلس الأمن بعثة السلام بلا سلام المعروفة باسم «يوناميد». لكن مناصري القضية في أميركا وأوروبا لم يستسلموا بعد وما زالت «العفو الدولية» و «هيومن رايتس ووتش» وغيرهما من المنظمات الحقوقية ترصد الوضع في الإقليم وتضغط على مجلس الأمن لكي لا تمر جرائم الحكومات السودانية المتتالية مرور الكرام.
أما في وطننا العربي، فلا يزال الصمت سيد الموقف. حتى الأمير الأردني زيد بن رعد الحسين، مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان لم ينطق بحرف واحد، وكأن الادعاءات الخطيرة في دارفور لا تمت بصلة للإنسان وحقوقه الأساسية. ولم تحرك الجامعة العربية ساكناً ولم يتظاهر المواطنون العرب ولو حتى في فضاء «الفايسبوك» الافتراضي الذي سارعوا فيه بتظليل صورهم الشخصية بألوان العلم الفرنسي على وقع هجمات باريس.
أما التغطية الإعلامية العربية لتقرير منظمة العفو الدولية فكانت سردية وسريعة على العموم، وركزت على نفي الخرطوم ما نسب إليها من فظائع. ثم عاد الصمت ليخيم من جديد على قضية لم تشغل في يوم من الأيام بال ما يسمى بالرأي العام العربي.
منذ قام منسق الشؤون الإنسانية في السودان آنذاك، الدكتور موكيش كابيلا، بوصف الأوضاع في دارفور بأنها «أسوأ أزمة إنسانية في العالم حالياً»، تأرجحت ردود الفعل في العالم العربي بين إنكار واستغراب وشيء من التعاطف. ويمكن أن نعزو هذا لعدة أسباب، من بينها التوقيت الخاطئ الذي اختارته الحركات المسلحة في دارفور في هجومها على مطار الفاشر في أبريل (نيسان) 2003، أي بعد حوالى شهر على الغزو الأميركي للعراق. نظراً إلى هذا التوقيت لم تتردد جهات أميركية في استغلال أزمة دارفور لتحويل الأنظار عن جرائم إدارة بوش في العراق وتمنح الرأي الداخلي فرصة التخفيف من إحساسه بالذنب عبر مناصرة ضحايا حكومة عربية أفريقية.
كالعديد من مواطني المنطقة شكّكت آنذاك في وصف وزير الخارجية الأميركي الجنرال كولن باول لجرائم الحكومة السودانية بالإبادة، هو الذي شهد زوراً في مجلس الأمن على امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل. ثم استغربت ضخامة حملة مناصرة دارفور التي وقفت وراءها منظمات دينية لم تكترث من قبل لقتل ملايين الأفارقة في الكونغو والصومال وإريتريا وتشريدهم واضطهادهم. ثم انزعجت حين قام عبد الواحد محمد نور رئيس حركة «جيش تحرير السودان» بزيارة لإسرائيل، وفتحت الحركة مكتباً هناك للتقرب من أكثر الأنظمة قمعاً وعنصرية. كالعديد من مواطني المنطقة كنت حينها أنظر إلى مأساة دارفور من زاوية الغزو الأميركي- البريطاني للعراق والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. كنت في حالة رفض وإنكار لفكرة أن حكومة عربية مسلمة قد ترتكب الفظائع التي كان ينسبها إليها الإعلام الغربي الذي فقد الكثير من مصداقيته منذ حرب الخليج الأولى.
لكن سرعان ما تغيرت قناعاتي حين شغلت منصب المتحدثة الرسمية لبعثة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور (يوناميد) في صيف 2012. وقفت حينها على تستر البعثة وإدارة حفظ السلام في نيويورك على حملات قتل وتشريد ممنهجة لا يمكن وصفها إلا بتطهير عرقي للقبائل غير العربية، وعلى رأسها قبائل الفور والزغاوة والمساليت. اطّلعت على سيل من تقارير البعثة التي تصف قصف القوات الحكومية للمدنيين واغتصابها الممنهج للنساء والفتيات، وأحياناً أمام أعين آبائهن وأزواجهن، وحرقها قرى بأكملها وتهجيرها عشرات الآلاف من الناجين والاستيلاء على أراضيهم وممتلكاتهم ومنع وصول المساعدات الإنسانية إلى الضحايا. وكانت تقارير البعثة توضح أن هذه الجرائم تتم وفق خطة حكومة السودان الماضية قدماً في تغيير ديموغرافية دارفور لمصلحة بعض القبائل العربية الموالية للنظام.
وحين تأكدت من صمت الأمم المتحدة وطمسها كل هذه الحقائق وتحويرها، أثارت اشمئزازي لغة تقاريرها عن الوضع في دارفور. كانت تستخدم لغة دبلوماسية، تغلب عليها التلطيفات اللغوية وإعادة تسمية الأشياء بهدف التمويه والإبهام ونسبة الأفعال إلى المجهول أو إلى غير فاعلها الأصلي واستخدام لغة الأرقام المضللة. غضبت من لغة الخداع والتواطؤ التي كانت تصف القصف المتعمد للمدنيين بـ «الغارات الجوية» والحرب المتواصلة التي تستهدف المدنيين بـ «الاشتباكات المتفرقة»، وفرق الموت التابعة للحكومة بـ «قوات الدعم السريع»، وتنعت الاغتصاب الممنهج والجماعي بـ «العنف المبني على النوع الجنسي».
كانت قيادة «اليوناميد» تحثني على أن أمرر هذه الأكاذيب بكل دبلوماسية. لكني رفضت أن أصبح متحدثة باسم بعثة صامتة، متواطئة وقررت أن أثور. قدمت استقالتي وسربت لمجلة «فورين بوليسي» الأميركية مئات التقارير التي تثبت تستر الأمم المتحدة على أقبح الفظائع في دارفور، وأدليت بشهادتي في عدة منابر سودانية ودولية، بما فيها لجنة الشؤون الخارجية بالكونغرس الأميركي. وبتضافر جهود عدد هائل من الشركاء المستقلين، تمكنا من إفشال مخطط إدارة حفظ السلام التي كانت تهيئ لسحب الآلاف من قوات السلام عبر الصورة الوردية التي كانت ترسمها عن الوضع في الإقليم وتطبيلها لعملية سلام مبتور وغيرها من الخدع السياسية.
إن مأساة دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق تقترن بنزعة عنصرية تم توظيفها سياسياً من طرف نخب حاكمة تنتمي لقبائل عربية أو تدعي ذلك. أقول «تدعي» لأن الحكومة السودانية تسلح بعض القبائل العربية الموالية لها بأسلحة ثقيلة وفتاكة تضرب بها قبائل لا تقل عروبة عنها في دارفور.
لكن مشكلة العنصرية في الوطن العربي لا تقتصر إطلاقاً على السودان، ففي الوقت الذي كان فيه أسياد الخرطوم يبيعون «الزرقة» في سوق الرقيق في منتصف التسعينات من القرن الماضي مقابل أقل من ثلاثين دولاراً أميركياً، كان الحرّاطون في مدينة نواكشوط الموريتانية يتاجرون بـ «العبيد» بأقل من ذلك.
وما زالت ثقافتنا تشكك في عروبة ذوي البشرة السوداء وتسمح بالتمييز ضدهم، مواطنين كانوا أو أجانب، وتنعتهم بأقبح الأوصاف وتهمشهم، من القمة إلى القاعدة. ولأن مشكلة الوطن العربي اليوم هي أيضاً مشكلة قيم إنسانية، فإنه يتوجب على الجميع، بخاصة النخب السياسية والحقوقية والثقافية، الإقرار بعنصرية ثقافاتنا ومناهضتها من الخليج إلى موريتانيا.
ولذلك، فإن مطالبة عربية بتحقيق فوري في تقرير منظمة العفو الدولية قد تذكر الجميع بأن الإنسان العربي الذي تعاطف مع ضحايا محرقة الغوطة في سورية لا يقبل بهجمات كيميائية في دارفور وقصف بالقنابل العنقودية في جبال النوبة.
* كاتبة من المغرب وحائزة على جائزة رايدنهاور الأميركية لكاشفي الحقيقة لسنة 2015.