شبكة وتر- أحمد قريع ( ابو علاء)- لعلها من محاسن الصدف، وحسن الطالع وحده، ان تترافق الذكرى السنوية الخامسة والثلاثون لمجزرة صبرا وشاتيلا المروعة، مع البشرى ببزوغ فجر فلسطيني جديد، وظهور بارقة امل تلوح في الأفق القريب، بطي صفحة الانقسام المشؤومة، التي طالت أكثر مما ينبغي، واضعفت القضية الفلسطينية كما لم يضعفها شيء آخر على مدى السنوات العشر الماضية، لا سيما وان طي الانقسام يمثل خطوة لا بد منها لتحقيق المصالحة، واستعادة الوحدة الوطنية، الامر الذي يؤكد على ان لدى الشعب الفلسطيني مخزوناً من الصبر الذي لا ينفذ، ومن الارادة التي لا تقهر، وان لدينا معيناً لا ينضب من القدرة على معاودة التقدم الى الامام، وتحقيق مزيد من الانجاز، رغم الجراح الراعفة، والحصار والعذابات التي تجل عن الوصف.
نقول هذا ونحن نستقبل الأخبار الطيبة الآتية من القاهرة، المبشرة بقرب طي صفحة الخلاف البغيض بين جناحي الوطن، وانهاء الاوضاع الشاذة بين رفقاء الكفاح ضد الاحتلال، في خطوة طال انتظارها من جانب كل من ظلوا يراهنون على معدن الوطنية الفلسطينية الذي لا يصدأ، وعلى الروح الوثابة لهذا الشعب العظيم، تماماً على نحو ما تجلى عليه الامر قبل ايام معدودات، حين استجابت قيادة حركة المقاومة الاسلامية (حماس) للإرادة الفلسطينية الجامعة بحل اللجنة الادارية، وتمكين حكومة الوفاق من القيام بمهامها في القطاع دون عوائق، فضلاً عن القبول بإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية.
أعرف سلفاً أن هناك العديد من القضايا التي يجب بحثها بانفتاح تام والوصول إلى تفاهمات جدية لا رجعة عنها، وان هناك الكثير من التخوفات المشروعة، المؤسسة على تجارب سابقة، حيال احتمال انتكاسة هذه الخطوة المباركة مرة اخرى، وان الذاكرة الفلسطينية مليئة بخيبات الامل المتكررة، جراء فشل العديد من المحاولات المشابهة، التي ارتطمت دائماً بالحسابات الصغيرة، وتحطمت على صخرة التدخلات الخارجية اللعينة، غير ان ما نحن بصدده الآن، وبعد التجربة الذاتية المرة، أمر مختلف عن كل سوابقه، نتيجة عدد لا حصر له من المتغيرات التي راحت تملي نفسها بنفسها على الجميع، بما في ذلك تردي الاوضاع المعيشية في القطاع المحاصر، وقوة الضغط المصري على سائر الاطراف المعنية بضرورة واهمية التفاهم وحسم القضايا المختلف عليها والاتفاق بشأنها، والحاجة الموضوعية لتصعيد الكفاح الشعبي ضد الاحتلال والاستيطان.
وأحسب ان ردود الفعل الأولية على هذا التطور الايجابي في مجرى الحالة الفلسطينية المثقلة بروح التشاؤم والتحدي، وما تلهج به ألسنة العامة من مخاوف ازاء مخاطر العودة الى نقطة الصفر مرة بعد أخرى، تقدم الدليل الساطع على ضرورة أخذ هذه الخطوة التصالحية بجدية كاملة من جانب الكل الفلسطيني، والامساك عليها بالنواجذ حتى النفس الاخير، حتى وان احتاج الامر الى مزيد من التنازلات المتبادلة، واقتضت المصلحة العليا غض البصر عن العنعنات المحتملة من هنا وهناك، لا سيما اذا كان الثمن مستحقاً الى هذا الحد، وكانت العوائد الوطنية كبيرة بهذا القدر، وكان طي صفحة الانقسام اكبر ما نستطيع تحقيقه ومراكمته من منجزات في مرحلة الاستعصاء والانسداد هذه.
ما أود قوله في هذه المناسبة الباعثة على البهجة، والتشديد عليه بروح المسؤولية الوطنية، ان كل المؤشرات الموضوعية تشير الى اننا امام فرصة تاريخية كبرى لإنهاء الانقسام والتقدم على طريق المصالحة الوطنية، اكثر من ذي قبل، وان الفشل ممنوع على المنظمة والسلطة وفتح وحماس وكل الفصائل الوطنية والاسلامية الاخرى المخاطبة بهذه اللحظة الفارقة في حياتنا السياسية، حيث تضافرت هذه المرة معطيات جدية اكثر من اي وقت مضى لتحقيق مثل هذا التحول الذي لا مفر منه، اذا اردنا الحفاظ على ما تبقى بين ايدينا من مكاسب باتت مهددة حقاً مع استمرار هذه الحالة المشينة للجميع، هذه الحالة التي قلت فيها مراراً؛ انها الدجاجة التي تبيض ذهباً في حجر الاحتلال.
أشد ما يدعونا الى التفاؤل هذه المرة، ومعاكسة المخاوف والحذر المعشعش في النفوس الملتاعة، ان الرابحين من طي صفحة الانقسام هم كل الاطراف المعنية بلا استثناء، وان الربح السياسي وفير، ويفيض على الكل، ناهيك عما يحققه للقضية الوطنية المشتركة من خدمات هي في امس الحاجة لها في هذه الآونة العصيبة، اقلها اسقاط الرهانات الاسرائيلية على استمرار هذا الانقسام الذي شكل نكبة جديدة في قلب النكبة القديمة، واضعف الحالة الوطنية، وقوض الصورة الفلسطينية امام العالم، وأمام انفسنا ايضاً، خصوصاً في هذه المرحلة التي انشغل فيها العرب عنا لصالح قضياهم الداخلية.
وعليه، تقتضي المسؤولية الجسيمة الملقاة على كواهل القابضين على جمرات هذه المرحلة العصيبة، ان يبنوا على هذه الخطوة الأولية المهمة، ان لم اقل هذا الاختراق الكبير في جدار الازمة القائمة على مدى عقد كسيف من الزمن، تنابزنا خلاله بكل الالقاب السيئة، وتبادلنا فيه كل المفردات الاستفزازية، بما في ذلك تهم التفريط والكفر والخيانة والارتهان لأجندات خارجية، ولم يحصد اي منا مكسب يعتد به، او يحقق عائداً لصالح القضية، الامر الذي يقدم لنا درساً بليغاً، مفاده ان التفريط بالوحدة الوطنية هي الهدية الثمينة والمجانية التي تلقاها العدو المشترك بنفس خبيثة، وراح يستثمر فيها بلا توقف، ونحن جميعاً نتابع المشهد السريالي بقلوب واجمة وعيون مفتوحة.
في ختام هذ المطالعة العاجلة، أود تكرار القول والتشديد عليه بلا ملل، انه ممنوع علينا الفشل هذه المرة، ونحن نرى الاشقاء في مصر يبذلون كل هذه الجهود المشكورة، ونشاهد هذه اللهفة في القطاع المحاصر للخروج من اوضاع معيشية مزرية، فاقمها الانقسام اكثر فأكثر، وجعلها مستحيلة في واقع الامر، وفوق ذلك كله ادراك الحقيقة الازلية؛ وهي انه اذا لم نساعد انفسنا فلن يساعدنا أحد، فما بالك اذا تم تفشيل جهود الشقيقة الكبرى مصر العزيزة علينا جميعاً، وخيبنا آمال شعبنا، وعدنا الى تبادل اللوم عن المتسبب في تأييد الانقسام، والعودة الى دائرة الاتهامات والشكوك، فيما الاعداء يتفرجون علينا، ولا يتمنون لنا سوى المزيد من النجاحات في تحطيم السفينة التي تبحر بنا وسط كل هذه الانواء والاخطار المهلكة.