كتب خضر برهم: هي فرص قليلة التي تسمح لك بمشاهدة عرض مسرحي على خشبة الحكواتي، وعندما تأتي الفرصة عليك اقتناصها، وهذا ما حدث بالامس عندما تابعت عرض "أماكن أخرى".
طاقم العمل وطريقة الترويج له على صفحات التواصل الاجتماعي كانت كفيلة بدفعي الى الذهاب كي "أتجول في شتاتي الداخلي"، وعندما تشاهد هذا العدد الكبير الذي جاء ليشاهد هذه المسرحية، تفرح على اكثر من صعيد، وتبدأ بالاستعداد لخوض غمار تجربة جديدة في عالم المسرح.
عندما فتح باب المسرح وبدأنا الدخول، كان الممثلون الخمسة على المسرح ترافقهم موسيقى متواصلة ذات ايقاع متكرر، والممثلون يجوبون الخشبة يجهزون انفسهم، يتحدثون فيما بينهم، كي يُدخلوا المشاهد الى تفاصيل الحكاية التي ستروى بعد قليل.
ما ان انطلقت المسرحية حتى تلفت نظر المشاهد الاضاءة البديعة التي استُخدمت في المشاهد الافتتاحية، والتي لم تقل جماليتها في اي مشهد بعدها، فقد كانت كفيلة باعطاء كل مشهد حقه وايصال الرسالة المبتغاة منه، لقد كانت بطلة وكان فراس طرابشة قائدها. في بداية العرض شعرت ان الممثلين لزمهم بعض الوقت كي يتذكروا انهم بحاجة الى التخلي عن التمثيل، واظهار شخصياتهم الحقيقية، لانهم في النهاية يقومون بسرد قصصهم، حكاياتهم التي عاشوها، وتجاربهم التي خاضوها، وهذا الشعور اختفى بعد ان اندمج كل منهم في قصته ونقلها لنا.
لقد قام كل من رائدة غزالة، شادن قنبورة، خلود باسل طنّوس، حسام العزّة، هنري اندراوس بنقل شتاتهم الداخلي الى خشبة المسرح ونقلوا تجربة حياتهم لنا، فبينما تحدث البعض ماذا فعل في الاجتياح ومنع التجول، اخدنا اخرون الى تجاربهم التمثيلية الاولى، وزيارتهم الاولى الى رام الله، وتجربة رمي الحجارة وما حدث من تفاصيل مضحكة مبكية، الى تفاصيل ما حدث في مخيم اليرموك والزيارة التي قمنا بها جميعنا يوم أمس، وتفاصيل ويوميات اخرى سردوها لنا على مدى ساعة واربعين دقيقة.
ما ستشعر به طوال مدة العرض هو الشتات بالفعل، فلا يوجد قصة تكتمل للنهاية، ولا يوجد ما يجعل نفسك تهدأ وانت تتابع ما يحدث امامك على الخشبة، وقد استطاع النص الذي كتبه مخرج العمل بشار مرقص بصحبة طاقم المشروع ان يؤدّي ذلك بطريقة ممتازة، خاصّة من الطريقة التي تلاعبوا بها في النص، من جعل شخصية " هنري اندراوس" تكرر اغلب الاوقات حكايات الاخرين وتمثل التيه، وتضيع في تفاصيل الحكايات الاخرى قبل ان ينهي قصته ساعياً الى " اخذ القرار" في المشهد الاخير.
لقد بذل كل الممثلين مجهوداً كبيراً ليس فقط كي ينقلوا لنا بصدق الاحداث، بل ايضاً بالتفاعل مع الادوات التي توفرت لهم على المسرح من ملابس واضاءة وصوت، وهذه التفاصيل الصغيرة التي لا ننتبه لها في اغلب الاحيان، وهي بحاجة الى كامل التركيز من قبل الممثل كي لا ينسى اي تفصيل صغير قد يؤثر على المسرحية باكملها. ان اخراج عمل مثل "أماكن اخرى" هو عمل ليس بالهين، واعلم ان بشار مرقص بصحبة فريق العمل قد قاموا بمجهود جبار لاظهار العمل بهذه الطريقة يوم أمس، وقد كانت العملية الاخراجية حديثة جداً وجميلة جداً للمتلقي في نفس الوقت.
فمن الاستغناء عن الكواليس، لطريقة التعامل مع الممثلين الخمسة، وتفاعلهم مع كل تفصيلة صغيرة وكبيرة من طريقة الحديث مع الذات عبر المايكروفون في الزاوية البعيدة من المسرح، الى جلوسهم على الكراسي واستخدامها للتسلق والكتابة على الجدار الى استخدامهم التقنيات الكثيرة التي قدمتها المسرحية، وربما هنا ما يعيبها، فقد شاهدنا العديد من التقنيات تستخدم وفي بعض الاحيان كانت زيادة عن الحاجة، ولكن هذا لا يقلل من العمل بل يعني ان مرقص قدم عملاً جديداً يضيف له الكثير ويزيد من ثقتنا به، فكلما قالوا ان بشار مرقص مخرج لعمل مسرحي زاد لدينا الإدراك ان هذا العمل جيد واكثر من ذلك، وهذا ما يضع المزيد من المسؤولية عليه لتقديم اعمال مهمة في الفترة القادمة.
لقد كانت المسرحية زاخرة بالاحداث، ومدة العرض ايضاً جعلت بعض الحضور يأخذ ردة فعل سلبية حتى قبل ان يشاهدها وكأنهم تخوفوا من الملل الذي قد يصبيهم، ولربما هذا ما حدث مع البعض، لان المسرحية ليست سهلة، اذ يشعر المشاهد وهو يغادر المسرح بانه كان تحت ضغط متواصل طوال مدة العرض، ليس الضغط السلبي بل هو الضغط الذي يدفعك الى التساؤل: "ان ما حدث امامي على خشبة المسرح قد حدث معي بتفاصيل اخرى اقل او اكثر لا يهم، ولكنني مررت بهذه التجربة، شعرت بها". وهذا ما يجعل العرض دسماً لا يهضم بسهولة، فأنت بحاجة الى بعض الوقت كي تفهم كل ما حدث امامك. هي جولة في نفسك مع ذاتك، وانت تخرج من العرض ستبحث عن نفسك وفي شتاتك كي تستطيع ان تفهم ليس فقط ما حدث على خشبة المسرح، بل ايضاً ما حدث على خشبة حياتك الخاصة، فمن الممكن أن تسائل نفسك إن قمت باخذ القرارات الصحيحة أم لا، وستتكرر الأسئلة كثيراً لا محالة، وربما، يوماً ما، ستجد لها اجوبة في "أماكن أخرى".