كتبت هنادي قواسمي - عادت هذا الصيف إلى ساحة التداول الشعبيّ والإعلاميّ قضيةُ الأوقاف الأرثوذكسيّة العربيّة في فلسطين المحتلة، إذ تسرّبت أخبارُ صفقاتِ بيعِ وتأجير طويل الأمد لبعض تلك الأوقاف، عقدتْها البطريركيةُ اليونانيةُ مع جهاتٍ «إسرائيليةٍ» استيطانيةٍ، غالبها مُسجلٌ في دول الملاذ الضريبي، كجزر الكاريبي.
أقول إنها «عادت»، لأنها ليست قضيةً وليدةَ اليوم، فمراجعةٌ سريعةٌ لأرشيفات الصحف العربية و«الإسرائيلية» ولجلسات المحاكم «الإسرائيلية» تطالعنا بعشرات الأخبار والقضايا حول تسريب عقارات العرب الأرثوذكس، وتورّط البطاركة اليونان في ذلك منذ نشوء الحركة الصهيونية وحتى يومنا هذا.
وبموازاة هذا التسريب المتواصل للعقارات العربية الأرثوذكسية، يستمر العرب الأرثوذكس في فلسطين والأردن منذ ما يقارب 500 عام في نضالهم لاسترداد زمام الأمور في إدارة بطريركية كنيستهم، بعد أن سيطر عليها المطارنة اليونان في العام 1534م.
تسير هذه القضية، إذن، في مستويين؛ المستوى الأول، النضال المستمر منذ قرون من أجل إعادة الإدارة العربية الوطنية لهذه الكنيسة، والتخلص من «احتلال» اليونان لها، وتفردهم في التحكم بها وبشؤونها الروحية والإدارية والمادية، وهو ما يطلق عليه أبناء الطائفة «تعريب الكنيسة»1.
أما المستوى الثاني، وهو متصلٌ بالأول، فهو النضال من أجل استرداد الأوقاف التي تسرّبت إلى أيدي الاستيطان «الإسرائيلي»، والحفاظ على تلك التي لم تُسرَب بعد، سعيًا لصياغة منظومة جديدة تحمي أوقاف الكنيسة وأوقاف أبنائها.
يتضمن هذا المستوى كذلك العمل على كشف تلك الصفقات والحديث عنها بصوتٍ عالٍ والتوعية بشأنها، خاصةً أن اليونان يدّعون أن تلك الأوقاف «أملاك يونانية خالصة»، ولا حقّ للعرب فيها. يترافق هذا الادعاء مع توفير الغطاء من بعض الجهات السياسية للبطريرك اليوناني ثيوفيلوس الثالث والتعامل الطبيعي معه رغم دعوات العرب الأرثوذكس لمقاطعته وعزله2.
وكما هو واضح من هذين المستويين، فإن القضية الأرثوذكسية في فلسطين والأردن ليست قضية دينية الطابع فقط، بل هي بالأساس قضية وطنية بامتياز تجري فصولها داخل مؤسسة دينية، وتتسع تبعاتها لتمس مناحي الحياة خارج المؤسسة الدينية كذلك. وهي قضية تمسّ الوجود الوطني العربي لأبناء هذه البلاد عامةً ولأبناء الطائفة الأرثوذكسية خاصةً، فهي قضية تتعلق بأراضٍ فلسطينية تملكها كنيسة عربية، أوقفها أبناء فلسطين، بينما يتم إقصاؤهم وبشكل ممنهج منذ 500 عام عن إدارة كنيستهم.
في هذه المقالة، نستعرض، على جزأين، تاريخًا مختصرًا للقضية الأرثوذكسية العربية في فلسطين والأردن، بدءًا من التعريف بالكنيسة الأرثوذكسية وتأسيسها في القدس قبل ما يقارب ألفي عام، مرورًا بسيطرة البطاركة اليونان على البطريركية وإقصاء المطارنة العرب3، وتوالي القوانين التي حاول العرب من خلالها فرض حقوقهم، ووصولًا إلى الصفقات المشبوهة التي تجريها البطريركية اليونانية في العقود الأخيرة من أجل تصفية الأوقاف الأرثوذكسية وتحويلها بشكل نهائي لأيدي مؤسسات الاحتلال «الإسرائيلي»، بأبخس الأثمان، وبدون أي رادع.
مختصر تاريخي للكنيسة العربية الأرثوذكسية
الكنيسة العربية الأرثوذكسية هي إحدى الكنائس الشرقية، وتعتبر أكثر الكنائس المسيحية قِدمًا، إذ لم يكن في العالم سوى الكنيسة الأرثوذكسية حتى القرن الخامس الميلادي4، ومن ثم توالى ظهور الكنائس الأخرى في العالم مثل الكاثوليكية والإنجيلية والقبطية وغيرها.
الكنيسة الأرثوذكسية هي «أم الكنائس» في العالم أجمع، أي أنها أول تجمعٍ مسيحيٍّ أُسِسَ على شاكلة كنيسةٍ رسميةٍ، وذلك في بلاد الشام في العام 52 ميلادية على يد أتباع السيد المسيح، وكما يرد في بعض المصادر، على يد الأسقف يعقوب الرسول ابن يوسف النجار.
يقول أليف صباغ، الباحث في شؤون الكنيسة وأحد المناضلين لتعريبها وعزل بطريركها اليوناني، إن الكنيسة بمفهومها الديني هي «مجموع المؤمنين»، وإن هويتها تُحسب بهوية المؤمنين ورجال الدين فيها، وبالتالي فهي عربية المنشأ والأصل والانتماء.
ومنذ تأسيسها حتى اليوم، لم يكن رعايا الكنيسة الأرثوذكسية في القدس وفلسطين عامة إلا عربًا من أبناء البلاد، بل كان أغلب العرب المسيحيين في فلسطين من أبناء الطائفة الأرثوذكسية، فهي الطائفة المسيحية الأكبر والأوسع نفوذًا والأغنى مواردًا.
عن هؤلاء المؤمنين يقول صباغ: «الذين أسسوا الكنيسة المسيحية، ولم يكن اسمها في حينه «الأرثوذكسية»، هم مجموع الشعوب القديمة التي سكنت فلسطين وما حولها من العرب والآراميين والفينيقيين والكنعانيين والحثيين والسريان وغيرهم، والذين صهرتهم الكنيسة في هوية واحدة على قاعدة الديانة المشتركة والوقوع المشترك تحت اضطهاد السلطة اليونانية/ الرومية الحاكمة».
منذ تأسيسها حتى اليوم، لم يكن رعايا الكنيسة الأرثوذكسية في القدس وفلسطين عامة إلا عربًا من أبناء البلاد
تبعًا لذلك يحرص صباغ وغيره من الباحثين والناشطين في القضية الأرثوذكسية على استخدام التعابير والمصطلحات بحذر ودقة، فيقول «الكنيسة الأرثوذكسية»، و«البطريركية اليونانية»، بدلًا من «الكنيسة اليونانية»، أو حتى «كنيسة الروم الأرثوذكس»، مُنبّهًا أن مؤرخي اليونان يحرصون على خلط المفاهيم في مؤلفاتهم واستخدام تعبير«يوناني أرثوذكسي»، أو «رومي أرثوذكسي» للدلالة على أن الكنيسة كانت يونانية دائمًا، وفق ادعائهم5.
وفي ذلك يوضح أليف بأن الكنيسة هي مجموع الطائفة المؤمنة بمعتقدات تلك الكنيسة، وهم العرب الأرثوذكس في فلسطين والأردن، لذلك نقول «الكنيسة الأرثوذكسية». أما تعبير «البطريركية» فيشير إلى الجسم الإداري التي تناط به مسألة متابعة الشؤون الإدارية والمادية للكنيسة، وهو الجسم الذي يسيطر عليه البطاركة اليونان منذ ما يقارب 500 عام والذي من خلاله يُحكمون كذلك سيطرتهم على المناصب الروحية في الكنيسة.
وعند الحديث عن تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية في بلادنا، يُتطرق عادة إلى الكنائس الأرثوذكسية الأربعة التي تفاعلت فيما بينها في سيرورتها التاريخية، وهي: القدس، والإسكندرية، وأنطاكية، والقسطنطينية (اسطنبول).
ويتبع للكنيسة الأرثوذكسية في أنطاكية المسيحيون الأرثوذكس في سوريا ولبنان، والتي كانت تحت سيطرة البطاركة اليونان إلى العام 1898، وللكنيسة في الإسكندرية أرثوذوكس مصر (ما عدا الأقباط)، وللكنيسة في اسطنبول أرثوذوكس تركيا، أما الكنيسة في القدس فتشرف على الأرثوذكس في فلسطين والأردن، وهي محل النضال الدائر اليوم بين الرعية العربية الأرثوذكسية وبين البطريركية اليونانية6.
وتختلف الكنيسة الأرثوذكسية في بُنيتها الروحية عن باقي الكنائس المسيحية بكونها لا تخضع لسلطة رجلٍ واحدٍ كما هو الحال في الكنيسة الكاثوليكية التي يتزعمها رجلٌ واحدٌ يتمثل في شخص «البابا» في الفاتيكان، إذ أن الكنيسة الأرثوذكسية مؤلفة من مجموعة من الكنائس المستقلة في مختلف أماكن تواجدها، والتي يتولى زعامة كل واحدة منها بطريرك هو صاحب السلطة العليا فيها7.
استمرت البطريركية الأرثوذكسية منذ نشوئها وحتى أوائل الحكم العثماني لبلادنا، بطريركيةً عربيةً، تولى كرسيها البطريركي على مدار تلك الأعوام المطارنة العرب، وكانت «جنسيتها عربية وبطاركتها ومطارنتها وأساقفتها ورهبانها من العرب أهل البلاد ولغتها عربية، اللهم إذا استثنينا تلاوة الإنجيل والصلوات في الكنائس التي كان قسمٌ منها يُتلى باللغة اليونانية تبعًا لما كان يجري في جميع الكنائس الأرثوذكسية سواء في روسيا أو البلقان أو مصر أو سوريا»8. ومن الدلائل على هذه العروبة أن البطريرك صفرونيوس، وهو البطريرك الذي استلم العهدة العمرية من الخليفة عمر بن الخطّاب، كان عربيًا.
«الاحتلال» اليوناني
مع بداية الحكم العثماني، وسيطرته على بلاد الشام، ومنها فلسطين، تغيّر الوضع. ويُعتبر العام 1534 ميلادية، عام «اختطاف الكنيسة». حينها استدعى السلطان العثماني * بطريرك كنيسة القدس الأرثوذكسية، وكان بطريركيًا عربيًا، وهو البطريرك عطا الله الثاني إلى القسطنطينية، وفرض عليه الإقامة الجبرية فيها، ولم يسمح له بالخروج منها والعودة إلى القدس.
يقول أليف صباغ بأن تحالفًا يونانيًا عثمانيًا تشكّل في ذلك الوقت لمواجهة الأرثوذكس العرب، باعتبار الأخيرين عدوًّا مشتركًا للعثمانيين واليونانين. المصلحة العثمانية في هذا التحالف، كما يشرح صباغ، الصُلح مع اليونان وتأمين المنطقة الغربية لتركيا، أي اسطنبول وغربها، باعتبارها كانت قبل السيطرة العثمانية بلادًا لليونان، متمثلين بالإمبراطورية البيزنطية، وريثة الإمبراطورية الرومانية في الشرق. وجَد اليونان في ذلك فرصة للسيطرة على ما يعتبرونه كنيستهم، والتفرد بالمقدسات المسيحية في القدس، وهو ما سوّقوا له لاحقًا باعتباره «استردادًا لإرثهم من زمن إسكندر المقدوني».
وبحسب ما تؤرخه البطريركية – بتوجهها اليوناني- فإن عطا الله الثاني «تنحى عن منصبه ليهتم بالشؤون الثقافية والتربية الدينية»، إلا أن الطائفة العربية ترفض هذه الرواية وترى أن عطا الله الثاني عُزل من منصبه، أو أُجبِرَ على التنحي بضغط من السلطات العثمانية، لصالح تعيين البطريرك اليوناني جرمانوس.
في ذات الفترة الزمنية، تم تعيين بطاركة يونانيين بدلًا من العرب في الكرسيين العربيين المتبقيين، أي في الإسكندرية وأنطاكية.
وكان جرمانوس هذا قد تعلّم اللغة العربية في مصر، وبلغت درجة إتقانه للغة العربية أن يوصف بأنه «بطريرك بدويّ»، لاتقانه اللغة ومعرفته باللهجات، لدرجة «لم يشتبه فيه معها أنه يوناني». وعندما جاء إلى القدس احتك بالكنيسة الأرثوذكسية ورهبانها وعيّنه البطريرك عطا الله – نفسه الذي عُزل لاحقًا – شمّاسًا، ومن ثم ترّقى في درجات المناصب الكنيسة، حتى استطاع بفضل تحالفه مع العثمانيين السيطرة على الكرسي البطريركي بعد عزل عطا الله.
«يونَـنَـة» البطريركية
منذ أن استولى جرمانوس على الكرسي البطريركي المقدسي، بدأت عملية ما يسمّيه العرب الأرثوذكس «يوننَة البطريركية الأرثوذكسية» أي جعلها يونانية الهوية. عمل جرمانوس على مدار 45 عامًا جلس فيها على الكرسي البطريركي، ومن تبعه من البطاركة اليونان، على تأسيس قواعد جديدة لتنظيم أمور الكنيسة والبطريركية الأرثوذكسية.
وكان ذلك بما يخدم مصالح اليونان فيها، وبما يضمن إقصاء العرب عن المناصب الروحية والإدارية فيها إلا ما يقع في دائرة الاسترضاء بين الحين والآخر، وبما يضمن ألّا يتحكّم في أملاكها وأوقافها أحد إلّا الرهبان اليونان، مع إهمال احتياجات ومصالح الرعية الأرثوذكسية العربية.
بل إن جرمانوس فكّر بمستقبل الكرسي البطريركي بعد وفاته، فعندما تقدّم به العمر قرّب إليه ابن أخته «صفرونيوس»، والذي كان كاهنًا في القسطنطينية، وأتى به للقدس، وعيّنه مطرانًا تمهيدًا لتسليمه الكرسي بعد وفاته، وذلك بدعم ومساندة من السلطات العثمانية، سعيًا لتفويت الفرصة على العرب لاستعادة الكرسي البطريركي بعد وفاته.
أخوية القبر المقدس
كانت من أولى خطوات جرمانوس تشكيل هيئة دينية جديدة أسماها «أخوية القبر المقدس»، وهي هيئة دينية تضمّ حصرًا رهبانًا يونانيين، ويُمنع العرب من دخولها قط، ويتم انتخاب أي بطريرك مستقبلي للكنيسة من بين أعضاء هذه الأخوية فقط.
وتظهر معالم الاستئثار بالكنيسة لصالح العنصر اليوناني في كل بنود الأخوية الثلاثة عشر التي أرسى قانونها البطريرك اليوناني ذوسيثيوس، ومنها البند الرابع الذي ينص على أن «القبر المقدس [المقصود هنا قبر السيد المسيح الذي بنيت فوقه كنيسة القيامة] وتوابعه، تتبع البطريرك الأورشليمي اليوناني، وبما أنه كذلك فهو ملكٌ للأمة اليونانية، ومن هذه الأمّة تختار الأخوية رهبانها حسب أنظمتها وقوانينها». هنا وبشكل فجّ يعبر البطريرك عن حالة كاملة من الإزاحة لهذه الكنيسة وهويتها العربية، لتصبح يونانية، بل أكثر من ذلك «ملكًا للأمة اليونانية»، بينما يتم التعامل مع العرب بروح التعالي وكأنهم طارئون على الكنيسة وتاريخها.
كما يشير البند الخامس منها، إلى أن أعضاء المجلس الكنسي المسمى «سينودوس» الذي يساعد البطريرك في متابعة شؤون الكنيسة، ينتخبون كذلك من بين أعضاء الأخوية فقط، أي أن البطريرك والمجلس الكنسي يوناني بالكامل.
برعاية هذه القوانين التي تحكم أخوية القبر المقدس، بدأت البطريركية بالتحول من «مركز روحي إلى دائرة عقارات.
أما الرعايا العرب أصحاب هذه الكنيسة الأصليون، فنرى أن البند الحادي عشر لا يعطيهم أية صلاحية في التدخل في شؤون أملاك الكنيسة، فيحدد بأن «للأخوية حق الملكية الكامل على أموالها في فلسطين وخارجها، ويمكنها التصرف به بكامل حريتها ومطلق غربتها». على الرغم من أن هذه الأوقاف، والتي توصف في بعض الأدبيات بـ«أملاك الله» كما يخبرنا صباغ، وُجدت لخدمة كلّ المحتاجين، وليس الأرثوذوكس حصرًا، فما بالك بحصرها باليونان.
إضافة إلى ذلك، لا تولي هذه الأخوية الكنائس والأديرة أي اهتمام، وعلى الرغم من كونها مواقع ممارسة الشعائر الدينية، إلا أن بنود الأخوية لا تعتبرها أولوية من حيث صرف الأموال. يقول البند الثالث عشر والأخير منها إن البطريركية غير مُلزَمة بترميم الكنائس أو بناء كنائس جديدة، وأنها إن قامت بذلك فهي تقوم به من منطلق «الالتزام الأدبي» فقط لا غير، كما ورد في نص القانون.
وبحسب تعبير صباغ، برعاية هذه القوانين التي تحكم أخوية القبر المقدس، بدأت البطريركية بالتحول من «مركز روحي إلى دائرة عقارات»10، وهو الأمر الذي ستتضح تبعاته في تسريب العقارات منذ بداية الانتداب البريطاني وصولًا ليومنا هذا.
ولاحقًا حصل البطريرك اليوناني جرمانوس على فرمان من السلطان العثماني مراد الثالث، منحه «حقّ» الإشراف على الأماكن المقدسة وأملاك الطائفة وأوقافها، في حين كان الإشراف على هذه الأماكن والأملاك يتم في الماضي ومنذ عهد الخليفة الأموي معاوية بن سفيان بمشاركة أعيان الطائفة، وليس حصرًا على البطاركة11.
أدّى هذا الاضطهاد والعزل إلى انتقال بعض العرب الارثوذكس إلى المذهب الكاثولوليكي، وبحسب ما يفيده كتاب «أزمة في انتظار الحل»، فإن شقيقين من بيت لحم كانا أول من اتبع المذهب الكاثوليكي في الشرق عام 1550، وذلك بتأثير من الاضطهاد اليوناني بحقهم. وهو ما يؤكده صباغ، إذ يقول أن القرن التاسع عشر شهد تحوّل الكثير من العائلات الأرثوذوكسية إلى الكاثوليكية، ولاحقًا لغيرها من المذاهب، نتيجة ليوننة الكنيسة.
وعلى هذا المستوى، ما زال تأثير هذه اليوننة يمتد إلى يومنا، إذ يعتقد البعض أن أحد أسباب تصاعد هجرة المسيحيين الأرثوذكس من فلسطين هو حالة الإحباط والإهمال التي يعيشونها نتيجة سيطرة اليونان على كنيستهم وحرمانهم من أوقافها.
النصف الثاني من القرن التاسع عشر
لم يقف العرب الأرثوذكس مكتوفي الأيادي أمام إدارة اليونان المتفردة بالكنيسة. تشكّلت الجمعية الأرثوذكسية الوطنية، أول تنظيم للأرثوذكس، في سياق احتجاجهم على انتخاب البطريرك اليوناني بروكوبيوس، والذي لم ينل اعتراف العرب أو الروس، وأثار أبناء الطائفة ضدّه بسبب إغلاق مدارسهم الابتدائية ومستشفى الكنيسة.
ونتيجة للاحتجاج العربي المتصاعد ضدّ البطريركية اليونانية، وبسبب الانشقاقات والخلافات الداخلية بين اليونانيين أنفسهم وتوتر علاقتهم مع روسيا، وتزامنًا كذلك مع توتر العلاقات بين العثمانيين وروسيا وصراعات النفوذ بينهما، ومساندة القنصل الروسي12 لدى العثمانيين مطالب العرب الأرثوذوكس، ضغطت السلطات العثمانية على البطاركة اليونان من أجل القبول ببعض التنازلات من طرفهم لصالح الأرثوذوكس العرب.
وكان من بين هذه التنازلات، أن وافقت البطريركية اليونانية على تأسيس ما عُرف بالمجلس المختلط الذي يضمّ رجال دين وعلمانيين أرثوذوكس من العرب واليونانيين، من مهمّاته متابعة الشؤون الاجتماعية والتعليمية لأبناء الطائفة، دون التدخل في الشؤون الروحية للكنيسة. كما شملت تلك التنازلات في حينه ضمّ رهبان عرب إلى أخوية القبر المقدس، وضمان مشاركة العرب في اختيار البطريرك في المستقبل13.
ضمن تلك الوعود، وضعت «أخوية القبر المقدس» قانونًا جديدًا يحكم عملها أقرّته، وعُرِفَ بقانون «البطريركية الرومية الأورشليمية»، وكأن أول تشريع رسمي يصدر من جهة حاكمة بخصوص الكنيسة الأرثوذكسية، وأصبح بمثابة الدستور الذي يحكم الكنيسة حتى العام 1958. ويتفق الباحثون على أن القانون ضبابيُّ الصيغة لذلك اختلفت تفسيراته، واختلفت المواقف من مدى إحقاقه لحقوق العرب. وهكذا لم يكتفِ العرب بهذا القانون واعتبروا أنه لا يعطيهم ما يكفي من حقوقهم، بل إن شيئًا من تلك الحقوق المنصوص عليها في القانون لم يُنّفذ، حسب ما يفيدنا به الباحث صباغ.
بعد الثورة الأتاتوركية في العام 1908 وتعديل القانون العثماني، حاول العرب الأرثوذكس مرة أخرى استغلال الظروف السياسية، والمطالبة بتعديل قانون 1875 واسترجاع حقوقهم فعلًا. وكان من ضمن التعديلات العثمانية إنشاء ما عُرِف بمجالس الملّة، إذ ينبغي في كل قضاء في أراضي الدولة العثمانية انتخاب مجلس ملّة، تكون من اختصاصاته النظر في الأوقاف والعقارات المتعلقة بكل ملّة.
«لولا تصرف البطاركة اليونان بأوقاف الأرثوذكس في القدس لما قامت ما يسمى “القدس الغربية»
ورغم مسارعة الأرثوذكس إلى إنشاء مجلس ملّة يمثلهم في القدس، إلا أن البطريرك اليوناني في حينه ذميانوس رواغ في الاعتراف بهم. واستمرت بعد ذلك محاولات الأرثوذكس العرب لنيل حقوقهم وفرض وجودهم على العنصر اليوناني المستأثر بالكنيسة، وشهدت السنوات الأخيرة من الحكم العثماني تشكيل عدة لجان حكومية في محاولة لحلّ الصراع، وتمخضت عن أغلبها قراراتٌ محصورةٌ وغير منفذة ولم تكن كافية من أجل إحقاق حقوق الرعية الأرثوذوكسية العربية.
قد يبدو هذا العرض التاريخي المختصر للبعض نبشًا في الماضي لا فائدة منه، إلّا أن متابعة الأخبار القادمة من القدس وبيت لحم تتيح لنا أن نشهد اليوم ارتباطات هذا التاريخ، وكيف أن صراعات النفوذ والمصالح السياسية وما أدّت إليه قبل 500 عام لها عميق الأثر على وجودنا العربي اليوم في القدس خاصة وفلسطين عامةً. فلا تُفصَل صفقات البيع والتأجير عن هذا الماضي وتسلسل أحداثه، وهي التي أوصلتنا اليوم، بجانب عوامل أخرى، إلى ما نحن عليه من ضياع للأوقاف لصالح الامتداد الاستيطاني. أو كما قال صباغ في محاضرة له: «لولا تصرف البطاركة اليونان بأوقاف الأرثوذكس في القدس لما قامت ما يسمى “القدس الغربية».
في الجزء الثاني من هذه المقالة، سنتحدث عن بدايات تسريب الأوقاف الأرثوذكسية للحركة الصهيونية وما حلّ بالكنيسة والبطريركية على صعيد القوانين الناظمة لها بعد انتهاء الحكم العثماني، وبدء الاستعمار البريطاني، والنضال لأجل التعريب والتصدي لتسريب العقارات حتى اليوم.
تنويه: ورد في النسخة السابقة من التقرير ذكر السلطان العثماني سليم الأول على أنه السلطان الذي استدعى البطريرك العربي وفرض عليه الإقامة الجبرية، وهي المعلومة التي اتضح لنا، بعد تصحيح من أحد القرّاء الأعزاء أنها ليست صحيحة.