شبكة وتر-بقلم: الدكتور أحمد جميل عزم
ahmad.azem@alghad.jo
يروي نبيل الرملاوي، في مذكراته، كيف أنّه بعد اللجوء من يافا إلى غزة، وفي مطلع الخمسينيات، افتقر اللاجئون للمأكل والملبس، حتى خاط الأهلُ في الخيام ملابس من البطّانيات، كان ذلك العام 1950، الذي سقط فيه الثلج غزيراً. وفي مناسبة أخرى، لم يكن لديه إلا بنطالٌ واحد يرتديه للمدرسة، فتمزق واهترأ وبات لا يستر الجسد، فقام بإسناده، بارتداء معطف أخته النسائي فوقه، ولم يكن أحدٌ حينها ليتوقف عند جِنس الملابس. ولكن لم تنجح الخطة طويلاً، فقد أصرّ أستاذ الرياضة أنّ يشارك نبيل بلعب الكرة الطائرة، فرفض بشدة، لئلا يضطر لخلع المعطف، وأخيراً أجبره الأستاذ ودفع طلابا لخلع المعطف بالقوة، ففعلوا وهو يبكي، "ظهر للأستاذ بنطلوني الممزق فأدرك حينها سبب رفضي اللعب، فتأثر بما رأى وجاءني يعتذر والدموع في عينيه". أنقذَت شقيقة نبيل العائلة، عندما عملت معلمة، ثم ذهب نبيل للكويت للعمل، ودفعت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) ثمن تذكرته شرط إسقاط اسمه من قوائم المساعدة لديها. وكما يقول لاجئ آخر في غزة حينها، سعيد المسحال، كان دفع تكاليف السفر للاجئين، جزءا من عمليّة تشجيع توطين اللاجئين وتهجيرهم بعيداً.
يقول كمال عدوان، اللاجئ في غزة حينها أيضاً، "بدأت المرحلة الأولى في أعقاب النكبة باستسلام وذهول عقّدته أكثر سنوات الجوع الثلاث التي عانتها معسكرات التجميع، بحيث لم يعد شعبنا قادراً على التفكير المنظم المسؤول". وفي كتابه الفريد عن تاريخ قطاع غزة 1948 - 1967، يقول حسين أبو النمل، اللاجئ في لبنان، إنّه عند تأسيس وكالة الغوث أوكلت إليها مهمتان، الأولى ذات شق إنساني يتضمن تقديم خدمات عاجلة (بحدها الأدنى)، والثانية، بعيدة المدى وهي توطين اللاجئين.
وبحسب كتاب أبو النمل، لم يُصِب الجوع اللاجئين وحسب، بل وأهالي غزة الذين فقد بعضهم أعمالهم. حتى أن زواراً دوليين مختصين قالوا إنّ أهالي غزة يحصلون على 1600 سعرة حرارية يومياً فيما حاجة الإنسان 2500. وينقل أبو النمل أنّ خِطة وَكالة الغوث كانت تتضمن تقديم المساعدات ثلاث سنوات فقط، ربما هي المدة اللازمة لإتمام مشاريع التوطين، ومن هنا قال السير جونسون، الوزير المفوض في السفارة البريطانية في القاهرة، حينها "فليكابد اللاجئون الفلسطينيون، مصاعب الشتاء المقبل وما بعده إلى أن يرضخوا"، أي أن يقبلوا بالتوطين.
من مشكلات الولايات المتحدة الأميركية والعالم مع دونالد ترامب أنّه لا يعرف كثيراً عن التاريخ، ويهوى جمع معلوماته من تويتر، ومواقع الانترنت الشعبوية، لدرجة طلبه في إحدى الحالات فتح تحقيق مع سلفه الرئيس باراك أوباما، بشأن أمرٍ قرأه في أحد هذه المواقع، وأشغل بلاده أياماً بذلك الطلب.
تعرض الفلسطينيون للتجويع، بالمعنى الحرفي للتجويع، مراتٍ عدّة، بهدف "تركيعهم" سياسياً، ويمكن ترك ما حدث في الثمانينيات في لبنان، وما يحدث حتى الآن في غزة، والاكتفاء بما ذُكِرَ أعلاه. لكن حتى لو كانت الأموال التي هددت مندوبة ترامب، في الأمم المتحدة، نيك هيللي بوقفها عن اللاجئين هذا الأسبوع، وما هدد به من وقف دفع أموال للفلسطينيين، مهمة حقاً، فيمكن إبلاغهما أنّ هذا السلاح جُرِّب طويلاً، منذ سبعين عاما دون فائدة، بل جاء بأثر عكسي.
لقد كانت انتفاضة أهالي غزة ضد مشروع توطينهم في سيناء آذار 1955، من أهم محطات تكوين الثورة في عقولهم وجيناتهم. ويجدر إكمال القصص أعلاه، بالقول: انتمى الرملاوي في الكويت لحزب البعث، ثم أكمل دراسته في المغرب وجنيف، وصار ممثلا لمنظمة التحرير في لندن، وعلى هيللي أن تتذكر أنّه كان سفير فلسطين في الأمم المتحدة في جنيف. أمّا المِسحال وعدوان، مهندسا البترول فلم يغرهما العمل بأكثر المناصب تميّزاً في قطاع النفط في السعودية وقطر، فكانا من مؤسسي حركة "فتح"، وأبو النمل، باحث وقائد في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. أما صديق المسحال، الذي أصيب بالشلل أثناء لعبهم على الشاطئ أحمد ياسين، فصار مؤسس حركة "حماس".
سواء بالتجويع أو بالإغراق بالأموال، في الشتات، أثبتت سبعون عاماً مضت أنّ هناك شعبا لا تطوعه المنافي والنكبات. أما تهديدات هيللي وترامب، فتعبر عن جهلهما بالقضية التي يتعاملان معها.
...عن "الغد" الأردنية