شبكة وتر- ما بين دفتي التربية باعتبارها صناعة أم زراعة يتكثف وجع التعليم العالي ومنتسبيه في حاله التيه ما بين الجامعة (المصنع) المسوقة للمعارف والبرامج وحاجات السوق، وما بين الجامعة (المنتجة) التي تعمل بوسائل وأساليب متعددة بغرض جذب الموارد المالية عن طريق التعاقدات والأنشطة الممولة ذاتياً، والتي تفصّل برامجها على قدر الطلب منها، والتي لا تصنف جامعاتنا تحت أي مسمى مما سبق، والحمد لله . ولما رأى المنظور الإنساني أن التعليم عملية اجتماعية، وأن على الجميع أن يطلبوا العلم من المهد إلى اللحد، وأن :
(من كتم علماً نافعاً ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة) كما قال (صلى الله عليه وسلم)، وأن من واجب الجامعات تثمين الأصول والحفاظ على الأنماط الاجتماعية الموجودة، ينشأ الصراع بين الحق والواجب في طلبة التعليم العالي والجامعات، وما بين التحول من المنظور النخبوي إلى المنظور الجماهيري لتحقيق عدالة الفرص. وبعيداً نوعاً ما عن أزمة المكان والإمكانيات عند الجامعات تجدر الإشارة إلى أن التحولات الصناعية والمجتمعية أرغمت المسار على التغبر من نمط الإنتاج في السلع الكبيرة إلى موجات متلاحقة من السلع والخدمات المتغيرة دراماتيكياً حسب أذواق المستهلكين التي تتغير بسرعة،
وهو ما أدى إلى التغير في المسار الوظيفي للفرد الذي كنا نعرفه بمهنته، وأصبح عليه أن يغير مهنته الآن عدة مرات، الأمر الذي يتطلب تعليماً مستمراً سريعاً ومتنوعاً، غير متناقض مع ما تنادي به السياسة. السؤال الذي يثيره الوضع القائم: هل ما يزال العائد الفردي أكبر من العائد الاجتماعي لتبقى الجامعات تناكف الطلبة على دفع الرسوم؟ ومن الذي يجب أن يدفع الكلفة؟
ولعل الإجابة هنا، تتحدد في أن الجامعات رغم تعدد أصولها (خاصة - عامة) لا تزال تصيغ مهامها وفقاً لمنظور النخبة، فمحطات الجودة النخبوية باقية في عقول قادتها مثل الالتزام بمعايير القبول والاعتماد على نتائج الثانوية العامة والبيروقراطية في الإدارة ملتزمة كل الالتزام بسياسة وزارة التربية والتعليم،
ولو كان هذا ما يجب أن يكون فلم تكون (خاصة-عامة) دون اختلاف يذكر عن الجامعات الحكومية. إن حاجات الجامعات وارتفاع متطلبات الإنفاق وارتفاع سقف التوقعات منها أدخلها في وضع مربك بين حقوقها وواجباتها وضرورة مواجهة الطلب الجماهيري بزيادة أعداد المقبولين فيها والمحافظة على الجودة في نفس الوقت . لكن دراسة الواقع أظهرت أن أنصار المدرسة النفعية في بعض الجامعات، قد ساوموا على الرسالة الاجتماعية للجامعات، وعلى الجودة النوعية في سبيل تحقيق مصالح شخصية أو تجريب أفكار جديدة . ونظراً لما تحمله أصول بعض الجامعات التي تم اعتمادها بهدف تحقيق فرص التعليم، وتحقيق الاستثمار في التعليم وتحقيق الأمن القومي من معايير خاصة، فإن أي أزمة تمر بها هذه الجامعات سيكون مصدرها القائمين عليها، وضعف إمكاناتهم في إدارة أزمتها أو الارتقاء بها بغض النظر عن مدى الالتزام من قبل الجمهور، أو تردي الوضع الاقتصادي العام،
وذلك لأن المجتمع يزخر بالعديد من المؤسسات البديلة أو المنافسة. أعتقد أنه ليس من الرسالة الاجتماعية بشيء، أن تنظيم حملات الاستقطاب في بداية كل عام لرفع أعداد المنتسبين في الجامعات، دون توضيح لرسالة ورؤية الجامعة الخاصة أو العامة التي تختلف عن الجامعة الحكومية من حيث أن على هذه الجامعات التزامات نحو العاملين فيها، ثم مطالبة الطلبة باستحقاقات في أوقات حاسمة، ولا أعتقد أنه من المنطق مقارنة التعليم العالي حديث النشأة في فلسطين مع دول أخرى قريبة مجاورة من حيث المجانية، ولكن من الواجب الوطني والإنساني أن تقوم الحكومة بتوجيه سياستها نحو دعم وجود الطالب في الجامعة،
خاصة بعد أن ارتفعت أعداد المنقطعين والمتسربين من الجامعة خلال السنوات السابقة بسببً تردي الوضع الاقتصادي، وبسبب الضائقة المالية ، مما يعمق الهدر التربوي ويعظم مردوده السلبي على المستوى القومي . إن الجامعات التي تدار وفق المنظور النفعي غالباً ما تفقد تحويلها وتعديلها لأدوارها- استجابة للظروف والحاجات السوقية- فيصبح إنجازها فقط في تسيير الأمور دون إبداع أو تطوير . وعليه، وجب الانتباه إلى أن ما يدور الآن في هذه الجامعات سيجعل رأس المال المادي هو المتغير المستقل، والاستثمار في التعليم وتطوير الموارد البشرية وخدمة المجتمع متغيراً تابعاً وليس العكس. وأدعو وزارة التربية والتعليم العالي إلى تشكيل لجان تقصي في كل الجامعات لتدرس الأوضاع الهيكلية والتنظيمية والثقافية ومردودها الخطير على المجتمع ، وإجراء إصلاحات وطنية تعفي فيها بآلية مشرفة الذين ضحوا ولا زالوا، وتضخ دماء جديدة بآليات حازمة ، وأن تتحمل الفارق مادياً .