شبكة وتر-بقلم "رائد العسكر "لن أتحدث هنا عن رواية مقتل الكاتب والصحافي جمال خاشقجي، فقد أشبع الإعلام والإعلام الآخر ذلك، بين كشف ودس وتحامل وتعامل، وإنما أود التحدث والكتابة إلى ما بعد تلك الحادثة وأسبابها والتوقيت الذي حدثت فيه والمصالح المترابطة بين الدول والجماعات التي جعلت من تلك القضية شمّاعة لتحقيق أهدافها.
تمرّ منطقة الشرق الأوسط حالياً بكثير من التعقيد والتشويش والغموض، فما إن تنتهي أزمة إلا وقامت على آثارها أزمات أشد تعقيدا وأكثر حبكه، والرابط الوحيد لنتائج تلك الأزمات هو التنافس على القيادة والتوسع، ولكن أقنعة عدة ملونة وغير ملونة أحيانا، والملعب الآن هو بين الفاعلين في المنطقة، بين طموح متجدد وبين إرث يراد له التجديد، بين قوى عالمية تصطف بين تلك المعسكرات ينظرون إلى من تؤول له الغلبة ليبدأ تبديل المقاعد على إثره، ولا شك أن هناك طفيليات يقتاتون ويشبعون من بقايا تلك الحروب ومخلفاتها.
يقول كوتيليا وهو فيلسوف هندي من القرن الثالث قبل الميلاد: «إن السهم الذي يطلقه الرامي قد يقتل شخصاً وحيداً أو لا يقتله، ولكن الأحابيل التي يديرها الأعداء قد تقتل حتى الأجنة في الأرحام».
من المعلوم لدى علماء الاستراتيجيات أنه ومن أجل الوصول إلى أهدافك يجب عليك معرفتها جيداً وإعداد الدراسات التي تؤدي إليها وتحييد العقبات التي قد تحول دون الوصول، متخذين قاعدة «الغاية تبرر الوسيلة» أحياناً.
وقد بدأت المملكة العربية السعودية تظهر طموحها الجديد في قيادة الأمة الإسلامية والعربية من خلال برنامج طموح يؤهلها إلى الوصول بتلك الشعوب إلى مصاف الدول المتقدمة من خلال ما حباها الله من ثروات وموارد هائلة، ومن غير المستغرب أن يكون هناك أعداء للنجاح، سواء أكانوا على شكل دول أم جماعات أم أفراد، وأسباب العداء قد تكون مفهومة؛ فالملعب كبير ويتسع والمنافسة قد تكون مشروعة ومرحب بها، إلا أن الحقد إذا خالجها يقضي على تلك المنافسة الشريفة لتتحول إلى حرب، ولكن بطرق أكثر لؤماً وأشد خبثاً.
يبلغ حجم التبادل التجاري السعودي - التركي خلال السنتين الأخيرتين ثمانية بلايين دولار، بعد أن وصل في العام 2015 إلى نحو 5.5 بليون دولار، ويهدف كلا البلدين إلى زيادة حجم التبادل التجاري إلى 20 بليون دولار خلال السنوات الخمس المقبلة، وكلا البلدين أعضاء في مجموعة الدول العشرين الأقوى اقتصادا في العالم ومنظمة العالم الإسلامي.
وتركيا لديها مشروع كبير للهيمنة على المنطقة، وتسعى لتطوير موقعها الجيواقتصادي من خلال موقعها الجغرافي المتميز، والذي يتيح لها التحكم والمشاركة بين الشرق الأوسط وأوروبا، وقد قطعت الدولة التركية شوطاً كبيراً حتى أصبحت ركيزة اقتصادية مهمة وواعدة في العالم، ولا شك أن هذا الطموح التركي يسعى إلى تحجيم أي دور يقابله في المنطقة، تحت أي ذريعة وتحت أي منطق، ولا سيما إذا علمنا أن معاهدة لوزان الثانية كانت السد المنيع من تطور ونهضة تركيا، وبناءً على معاهدة لوزان 1923، والتي تم إبرامها مع الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى، وهم: المملكة المتحدة (بريطانيا)، وأرلندا، وفرنسا، وروسيا، وإيطاليا، فقد وضعت بريطانيا شروطاً عدة مجحفة ومؤلمة بحق الدولة العثمانية، إذ تم إلغاء الخلافة، ونفي الخليفة وأسرته خارج تركيا، ومصادرة جميع أمواله، وإعلان علمانية الدولة، ومنع تركيا من التنقيب عن البترول واعتبار مضيق البوسفور الرابط بين البحر الأسود وبحر مرمرة، ثم إلى البحر المتوسط ممراً دولياً لا يحق لتركيا تحصيل رسوم من السفن المارة فيه.
وبحلول 2023 تنتهي مدة المعاهدة التي يكون قد مر عليها 100 سنة، ومن هنا تفهم تصريحات أردوغان غير مرة، إذ ستدخل تركيا عهداً جديداً، وستشرع في التنقيب عن النفط، وحفر قناة جديدة تربط بين البحرين الأسود ومرمرة تمهيداً للبدء في تحصيل الرسوم من السفن المارة.
ومن هنا يمكن فهم بعض أوجه القلق التركي من نهوض أي مشروع يسبق نهاية المعاهدة وينافس على تطور ذلك المشروع إلى الهيمنة على المنطقة.
لقد كانت السياسة التركية في السنوات القليلة الماضية تكشف عن وجهها الحقيقي أمام طموحات الدول الفاعلة في المنطقة من خلال القفز على أزمات المنطقة ومخاطبة الشعوب وأنها هي القادرة على إدارة تلك الأزمات باسم الدين تارة وباسم الخلافة المندثرة تارة أخرى، وتحاول من خلال سياساتها تحجيم أي دور قد يكون منافساً لها.
إن استثمار قضية الكاتب جمال خاشقجي بهذا الشكل وبداعي الحريات السياسية والثقافية، لا يدع مجالاً للشك في أن تركيا أفرجت عن وجهها الحقيقي أمام منافستها الحقيقية السعودية، وأن قضية جمال لا تعدوا إلا أن تكون ورقة تضغط بها للنيل من مشروع الدولة السعودية في التطور والتحديث، ومن المنطقي، بحسب التوجه التركي من هذه القضية، أن تقام صلاة الغائب أيضاً في تركيا على أكثر من 40 ألف كردي قتلتهم السلطات التركية منذ بدء الصراع مع حزب العمال الكردستاني الذي يناضل للعيش بحرية وكرامة.
لقد بدأت تركيا باللعب وخلط الأوراق في أكثر من مناسبة، وترميم نقاط الضعف والتركيز على هدفها من خلال الإفراج عن القس الأميركي، الذي قد صدرت عليه أحكام بالسجن، ولم ينته الحكم بها، ومن خلال الإعلان عن محاسبة المتورطين في قتل السفير الروسي قبل عامين، وتسعى لنسج فصول أخرى أشد ضراوة وعداوة للرياض في محاولة لنيل من التطور السعودي في قيادة المنطقة.
باعتقادي وحتى لو تمت محاكمة المتورطين بقتل جمال خاشقجي، لن ينتهي التسيس التركي للقضية، فالقضية أبعد بالنسبة لتركيا ومن يدور في فلكها من قضية قتل، القضية لديهم أن المملكة العربية السعودية هي المنافس الوحيد لهم في المنطقة في القيادة والريادة، لذا حريٌ بنا كمواطنين الالتفاف والتوحد خلف القيادة التي أوضحت وأعلنت كل نتائج التحقيق.
وتتطلب هذه المرحلة الأخذ بقول بلثازار غراسيان، وهو كاتب إسباني من العصر الذهبي: «لا تنكشف كمخادع، حتى ولو كان من المستحيل أن يعيش المرء اليوم إلا كمخادع، ودع أعظم دهاء لك يكمن في تغطية ما يبدو دهاءً».
أنا على يقين أن الأزمة ستمر بسلام وستقوي الحضور السعودي في المنطقة أكثر، ويجب تسجيل المواقف وإعادة الاصطفاف من جديد، وتنويع وتوزيع التحالفات الإقليمية والدولية، فـ«الناس مستعدون للرد على الأذى أكثر من استعدادهم لمكافأة الإحسان، لأن العرفان بالجميل عبء، أما الانتقام فمسرة». المؤرخ اليوناني تاسيتوس.