شبكة وتر-"يريد منك المجتمع أن تكون الأفضل والأكثر في كل شيء، الأكثر ذكاء وسعادة والأكثر دخلا وثراء، وأن تمتلك أفضل سيارة وأفضل وظيفة، وكلها نصائح تركز على ما تفتقر إليه، ومن ثم فهي لا تساعدك بقدر ما تسبب لك الإحباط"، هكذا عبر المؤلف الأميركي مارك مانسون في كتابه "فن اللامبالاة: لعيش حياة تخالف المألوف".
يُعدّ هذا أحد الأسباب التي تدفع الآباء للضغط على أبنائهم والإفراط في التوقعات والآمال، تجنبا للنظرة الدونية أو الانتقادات التي تواجه من يخرج عن الضوابط التي يحددها المجتمع لحلبة السباق الأكاديمي أو الرياضي أو الفني.. فما العواقب الوخيمة لتوقعات الآباء المبالغ فيها تجاه أبنائهم؟
الهوس بالكمال
كشفت دراسة نشرتها الجمعية الأميركية لعلم النفس أن توقعات الآباء المبالغ فيها تضر بالصحة العقلية للأبناء وتصيبهم باضطراب الشخصية المثالية أو الكمالية.
وحللت الدراسة -التي نشرت في مارس/آذار من العام الماضي 2022- بيانات أكثر من 20 ألف طالب جامعي من جنسيات أميركية وبريطانية وكندية، وأظهرت أن توقعات الآباء وانتقاداتهم زادت بشكل كبير على مدار الأعوام الـ32 الماضية بمعدل 40%.
ووفقا للدراسة نفسها، فإن توقعات الآباء المتزايدة كانت سببا في انتشار 3 أنواع من "الاضطرابات الكمالية" بين الطلاب، وهي المثالية المتمحورة حول الذات (الميل لبلوغ الكمال الذاتي) والمثالية المتمحورة حول الغير (طلب الكمال من الآخرين) والمثالية المفروضة اجتماعيا، أي الاعتقاد بأن الآخرين يطالبونك بأن تكون مثاليا، وتتداخل الأنواع الثلاثة وتتفاقم آثارها السلبية.
التخطيط لنجاح الأبناء مقابل صحتهم العقلية
يؤكد الدكتور توماس كوران، الأستاذ المساعد للعلوم النفسية والسلوكية بكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية وأحد الباحثين الذين أنجزوا الدراسة، أن ما يعرف بـ"الشخصية المثالية" هي أحد الاضطرابات النفسية، وتظهر في رغبة الفرد الشديدة وسعيه الدائم للخلو من الأخطاء والعيوب.
وتترافق هذه الرغبة مع تقييم ونقد الذات لتلبية كل تطلعات الآباء، مما يؤدي إلى الاكتئاب والقلق المستمر، وقد يصل الأمر في مراحل متقدمة إلى الميول نحو الانتحار.
يقول الدكتور توماس "لا نلوم الآباء لأنهم يتفاعلون من منطلق القلق على مستقبل أبنائهم، في عالم مليء بالتنافسية والابتكارات التكنولوجية وعدم تكافؤ الفرص".
ولكنه ينصح الآباء بضرورة مساعدة أطفالهم للتغلب على الضغوط المجتمعية من خلال التركيز على المعرفة وتعلم المسؤوليات وتطوير الذات ليصبحوا أشخاصا فاعلين في المجتمع بدلا من التركيز على درجات الاختبار.
التعاطف واللطف قبل التفوق الأكاديمي
تقول صحيفة "واشنطن بوست" إن تقريرا صادرا عن مؤسسة "روبرت وود جونسون" حدد الظروف البيئية التي تضر بصحة المراهقين، وكان من بينها الفقر والتمييز والضغط المفرط من أجل التفوق الأكاديمي.
وفي هذا الإطار، أثبتت دراسة قام بها باحثون من جامعة ولاية أريزونا، أن الضغوط التي يمارسها الآباء رغبة في التفوق الدراسي على حساب المهارات الاجتماعية ترتبط بأداء أكاديمي سيئ وإصابة الأبناء بالاكتئاب والقلق والعدوانية.
وأجرى الباحثون استبيانا على 506 من طلاب الصف السادس يضم 6 اختيارات، 3 منها تمثل قيما تتعلق بالنجاح الشخصي والإنجاز مثل التفوق الأكاديمي أو الحصول على وظيفة مرموقة أو دخل مرتفع، بينما كانت القيم الثلاثة الأخرى تتعلق بالسمات الشخصية مثل الأخلاق والاحترام واللطف، وطلبوا منهم تصنيف القيم التي يوليها آباؤهم اهتماما أكبر.
قارن الباحثون النتائج بمدى أداء الطلاب في المدرسة، ووجدوا أن الطلاب الذين فضّل آباؤهم السمات الشخصية بنفس قدر الإنجازات أو أكثر؛ حققوا أفضل النتائج الدراسية ويتمتعون بصحة نفسية أفضل وسلوك أقل خرقا للقواعد، ويمتلكون ثقة أعلى بالنفس مقارنة بأقرانهم الذين تمسك آباؤهم بالإنجاز الأكاديمي المرتفع على حساب السمات الشخصية.
الآثار السلبية لتوقعات الآباء المتزايدة
تدفع الأبوة والأمومة أحيانا إلى الضغط على الأبناء بحسن نية، فالآباء يعيشون أحلامهم من خلال أطفالهم ويريدون نسخا معدلة منهم تحقق ما لم يستطيعوا هم تحقيقه، ويرفضون أن يسلك أبناؤهم طرقا مغايرة لتلك التي يمهدونها لهم أو يتخذوا قرارات مغايرة لأفكار ومعتقدات الوالدين.
ويستعرض موقع "بارينتنغ" (Parenting) مجموعة من المشاكل التي تخلفها الآمال والتوقعات المتزايدة للآباء، وفق ما يلي:
الاضطرابات النفسية
يعد الصراع الداخلي بين توقعات الآباء ومستوى قدرات الأبناء أحد أسباب الاضطرابات النفسية كالسلوك العدواني أو الخجل والرهاب الاجتماعي، وبالأخص إن لم يستطيعوا تلبية هذه التوقعات.
كما أن رفع سقف الطموحات لدى الوالدين غالبا ما يصيب الطفل بالإجهاد الأكاديمي الذي يجعله عرضة للاكتئاب ويحرمه من المشاركة في الأنشطة الترفيهية.
اضطرابات الأكل
يلجأ الأبناء إما إلى تفويت الوجبات أو تناول كميات كبيرة من الطعام للهروب من ضغط الوالدين.
اللجوء إلى الغش
عندما يدرك الأبناء أن نظرة الآباء للنجاح تتمثل في تحقيق الإنجاز بأي وسيلة، يلجؤون إلى آليات التفافية تساعدهم في الوصول إلى أهداف آبائهم كالغش خوفا من الإخفاق.
تدني تقدير الذات
يستوعب الأبناء توقعات الآباء ويعتمدون عليها في تقدير ذواتهم، وعندما يفشلون في تلبية هذه التوقعات يواجهون الكثير من الانتقادات ويلومون أنفسهم وتتشكل بداخلهم شكوك ذاتية حول قدراتهم ومستوى ذكائهم.
الحرمان من النوم
يحاول الأبناء تلبية توقعات الآباء بالسهر لساعات متأخرة بدون الحصول على قسط كاف من النوم.
كيف تستدرجين طفلك الكتوم ليحكي عن يومه الدراسي؟
انخفاض الأداء
أثبتت دراسات عديدة العلاقة الإيجابية بين تطلعات الآباء والإنجاز، إلا أنه في أحيان كثيرة تفوق توقعات الوالدين قدرات الأبناء الفعلية مسببة خيبة الأمل وفقدان الحافز.
احتمال الإصابات عند ممارسة الرياضة
يعدّ ضغط الآباء المتزايد أحد أسباب حدوث الإصابات أثناء ممارسة الرياضة، إضافة إلى الالتزام المفرط بالتدريبات رغم الإصابة خوفا من الفشل ورغبة في تحقيق آمال آبائهم.
ووفق بحث علمي أجرته كلية إيثاكا بالولايات المتحدة على مجموعة من الشباب المشاركين في الرياضات الفردية -ومنها السباحة- ممن تتراوح أعمارهم بين 9 سنوات و18 عاما، ربط الباحثون بين التوتر الذي يشعر به المشاركون عند ممارسة الرياضة وقلة استمتاعهم وبين التوقعات والضغط الذي يمارسه آباؤهم من أجل الفوز.
دور الآباء لدعم أبنائهم
وفق الموقع الإلكتروني "لجامعة باي أتلانتيك" بواشنطن، يمكن للآباء اتباع هذه النصائح لتحسين مهارات الأبوة والأمومة ومحاولة الالتزام بالتوقعات الإيجابية التي تحفز الأبناء بدون الانزلاق إلى توقعات عالية تؤثر على الصحة النفسية للأبناء.
مراجعة النفس
راجعْ أسلوبك وطريقتك فيما تمليه على أبنائك من توقعات، وماذا كان رد فعلك عندما اعترضوا على بعض النقاط او اختلفوا معك، ومراعاة أن تتسق أفعالك مع أقوالك.
التشجيع
يجب أن تجنب طفلك الخوف من الفشل، فالفشل لا يعني نهاية الحياة، بل هو جزء من النجاح، وبدلا من لومهم على التقصير يمكن تشجيعهم على تفوقهم في مجالات أخرى، وتدريبهم على تغيير الإستراتيجيات والاستفادة من الأخطاء لتجنب تكرارها في المرة القادمة، قد يكون ذلك نقطة انطلاق لنجاحهم واكتشاف العالم بطريقتهم.
إظهار الحب غير المشروط
مهمة الآباء أن يُشعروا أبناءهم بالحب غير المشروط حتى لا يعتمد احترامهم لذواتهم على روعة إنجازاتهم فقط، ويجب أن يوازن الآباء بين متطلبات الحياة الأكاديمية وقضاء وقت مع الأبناء والاستماع إليهم ومشاركتهم الأنشطة الجماعية.