كتب عيسى ماجد رشماوي:
في كتاب الجغرافيا بأحد الصفوف الإبتدائية، زعموا أن "فلسطين" موجودة، وأنها تتوسّــط بلاد الشام، فالعالم، وكَبٌرت هذه النقطة على الخارطة بعيني، حتّى أصبحت أرسمها كبيرة على صفحــة واسعـة، فأزيح تارةً قلمي فأقتص جزءاً من لبنان، وتارةً أخرى أضم إلينا البحر الميّت، كلَّ البحر بشرقه وغربه، فأغضب لأني تعيس في الرسم، لكن معلّمي لم يغضب، حيث قال لي مشجّعاً: كلّها أرض عربية، وأنت لم تخطئ!
لكنّي حين كبرت، علمت أن أحد أقاربي مات مقتولاً، لأنه اقتص من أرض إبن عمه متراً واحداً، ليمر منه إلى منزله الجديد.
وفي كتاب التاريخ، تعلّمت أن أدافع عن عروبتي أكثر، فنحن، منذ ولادتي على الأقل، نعيش في عصر شاذ، لا يمت لتاريخنا بشيء، فقد كنّا يوماً أسياد العالم، نقُصُّ علوم الكيمياء والفيزياء والطب على هؤلاء الأجانب، فنفعل بهم خيراً علّهم يدركون نصف ما أدركنا، وكلّما دار نقاشٌ حول بطولاتنا، سردت "أحياناً في داخلي" كل ما حققه أجدادي من قبلي.
لكنّي بلغت الثلاثين، وشذوذ العصـر في ازدياد وتضخّم، فلا زال من فاوض على أرضي وقسّمها راضخاً في "أوسلو" على رأس عمله، يسلب أجدادي باقي أحلامهم بالتحرر، وينزل سقف أمنياتهم، من قصور بنوها في الأحلام، إلى بضعة حجارة بقيت بعد الحرب، فماذا قدّم لي التاريخ؟؟
وفي حصة اللغة العربية، كنت متفوقّاً، أناقش حتّى اليوم جميع الناس بأهمية اللغة، أهم عناصر القوميـة، فمن يكره الشعر أكرهه، ومن يبغض الإعراب أبغضه، ومن ينفر من البلاغة أنفر من جلساته، فهي هويّة وملجأ، ومدعاة فخر!!
ولكن، وبعد خوضي حروب النقاشات مع من أكرههم أو من أبغضهم أو من أنفر منهم، أضع ليلاً رأسي على المخدّة، وأحاول إعراب جملة عجزت عن حلّها لأعوام رغم تفوّقي، "فلسطين حرّة"، فأنا لغاية هذه اللحظة، لا أستطيع التفريق إن كانت "حرّة" نعتاً، أم أمنيةً، أم حلماً، أم وهماً.
إن كانت نعتاً، فأنا أكـذب، وإن كانت أمنيةً، فما السبيل إليها؟ وإن كانت حلماً فمتـى ينتهي؟ وإن كانت وهماً، فّلِماذا أحببت هذا الوهم لثلاثين عاماً؟
أما في حصص الرياضيات، وكنّا نسميها "الحساب"، فقد تعلّمت أن الدائرة الواحدة يمكن أن تقسم إلى 3 أثلاث، كل ثلث يختلف عن الآخر، فأحياناً كنت ألون الأول أخضر، والثاني أصفر، والثالث أحمر، حتى أستطيع تمييزها خلال الدراسة فحسب.
أما اليوم، فقد تعلّمت أن الدائرة يمكن أن تقسّم إلى 4 أثلاث، ففي احتفال لأحد الفصائل الوطنية، حضره ثلثا الشعب، وحملوا أعلامه ولبسوا زيّه الموحّد وهتفوا باسمه، وبعدها بأيام قليلة في احتفال آخر مشابه لفصيل آخر، حضر الاحتفال أيضاً ثلثا الشعب، فعلمت أن ما درسته نظري فقط، يفشل أحياناً عديدة على أرض الواقع!
كرهت وطني، وأقصد وطناً عربياً كاملاً، وتربّعت على عرش الناقدين المتشائمين المتشرذمين، بين رفض الواقع مرّةً، وقبوله مرّات.
كرهت شعبي، فنصفه يعتبرني كافراً، ونصفه الآخر يحاول أن يدفعني إلى الكفر، ثلثاه يسعون إلى الحرية، وثلثاه يسعون إلى الجنة، وقد فشلت الرياضيات هنا مرّة أخرى، كما ذكرت سابقاً، في الاختبار العملي.
حينما تعلّمت هذه المساقات المغلوطة، كنت طفلاً، وعندما كبرت شتمت "في داخلي" كل من علّمني، وجزمت بأنّهم كاذبون، لم يريدوا الاعتراف بالحقائق، فزوّروها، وأقنعونا بأننا لا زلنا في فلسطين، ونحن بالواقع في بقاياها، وأقنعونا بأننا أحرار، وفي الحقيقة نحن عبيد لأنفسنا قبل الغرب، وأقنعونا بأننا أرض الزراعة والثروات، فرأينا لاحقاً أن الأرض الخضراء في أي مكانٍ بالعالم، إلا عندنا!، ورأينا "نوافير" النفط في بلاد يسكنها العرب ويبنيها لهم الهنود، ووضعونا في وجه المَدَافِع، لنموت ونحن نُدافع عن حلمهم الخاص، رغم استحالته، "فلسطين موجودة"؟؟ كاذبون أنتم، نعم كاذبون !!
وعندما أصبحت أنا مكانهم، أعلّم كما علّموني، ورفع طالبي يده من بعيد، ميّزته قبل أن يسأل، هذا الذي شيّع ابن عمّه شهيداً قبل أسبوع، وغاب عن الحصة الماضية لكثرة دموعه حين تذكّره، وجاء لي يروي كيف أعدموا شهيدَه دون رحمة، ونظر بعينيه إلى الأسفل لكي لا يريني ضعفه، سألني: أستاذ، أعرف أنك لا تعلّم مادة الجغرافيا، لكن أجبني من فضلك فأنا لم أكن هنا قبل قليل، ما هذه البقعة المرسومة على لوح الصف؟ أرى في شمالها شيئاً كالإصبع، وفي جنوبهـا صحراء واسعة، وفي الغرب بحر كبير؟؟؟
فنظرت إلى اللوح، وابتسمــــت، وأدرت وجهي نحوه.. وفعلت ما فعله معلّمي من قبلــــي.. مرّةً أخــرى.. وبِكُلِّ فخــــرٍ .. كَذّبـــــــــــــت !!!