رادي واورينت-"بقلم :طارق زيدان " الرئيس باراك أوباما غادر منطقتنا بعد زيارته الرابعة في عهده. وخلال بضعة أشهر سيغادر البيت الأبيض ليصبح الرئيس السابق للولايات المتحدة حاملاً لقب الرئيس الـ44.
إلا أن أسئلة عدة أشغلت ولا تزال تشغل المتابعين حيال نظرته تجاه منطقتنا وتحديداً العلاقة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية. أهمها هل تغادر مع أوباما سياساته واتفاقاته تجاه منطقة الشرق الأوسط؟ وهل أوباما يمارس سياسة شخص أم استراتيجية دولة؟ وهل أوباما غير استراتيجية الدولة الأميركية أم أن العالم هو الذي غيرها؟
لعل أكثر الأخطاء ممارسة هو التصور أن الرئيس أوباما يمثل نفسه حين يتحدث أو حين يتفق، فكل شيء مدروس وكل شيء مكتوب في البيروقراطية الأميركية. دولة أميركا هي النقيض لجمهورية الموز، الشخص يذهب وتبقى الاستراتيجية.
صحيح أن كل رئيس يحاول أن ينظر إلى عقيدة أو نهج في آخر عهده الرئاسي. ولكن من منظور المصالح العظمى للدولة الأميركية يكون الرئيس عندها شيخ طريقة أكثر منه من إمام مذهب.
وصحيح أيضاً أن الرئيس يصل إلى البيت الأبيض من خلال التصويت، ولكن الانتخابات الديموقراطية شيء، والممارسة السياسية شيء آخر.
الرئيس الأميركي أياً كان، في الممارسة يمثل مجموعة معقدة من المصالح والمؤسسات. وأكثر من عبر عن هذه العلاقة هو الرئيس الأميركي الأسبق آيزنهاور في خطاب الوداع. حين حذر من «المجمع العسكري الصناعي» الذي يجسد اجتماع المال والصناعة، بحسب رأيه.
ثم لاحقاً وفي عهد الرئيس بوش الابن كانت علاقة المحافظين الجدد بإدارة البيت الأبيض أكبر مصدر إثارة لهذه العلاقة. المهم، وجود مجمع مصالح أو «استبلشمنت أميركي» حقيقي وليس افتراضاً.
هنا لا يمكن القفز من فوق نظرية المؤامرة، فهذا المجمع تطور وتكيف عبر السنين آخذاً أسماء عدة، مثل الشركات الكبرى المعولمة وقطاع المال والتأمين وطبعاً مراكز الدراسات والأبحاث.
لكن واجهتها ظلت ثابتة كما صاغها الآباء المؤسسون للولايات المتحدة. مجلس الكونغرس الأميركي. مجلسا الشيوخ والنواب مجتمعين هما واجهة هذا «الإستبلشنمت».
فالتوجيه السياسي لواشنطن يصنع في الكونغرس، والرئيس الأميركي يتصرف في هذا الإطار وهذه الحدود. لكن التغيرات الكبرى كالاتفاق النووي الإيراني والانفتاح على كوبا، فهذا أمر آخر.
أما التغيرات الكبرى عند الدول لا تكون فجائية، بل مسارها يأخذ شكل القوس. والطريقة الوحيدة لالتقاط مسار هذه التغيرات يكون في البحث عن المصالح. والتغيير يتم عند الفشل في تحقيق المصالح العليا. بمعنى آخر: قل لي ما هي مصالح أميركا وأقول لك كيف تفكر واشنطن.
فالدول تتكلم بلغة المصالح لا المذاهب، وتفكر بمنطق موازين القوى لا ميزان التجارة. هنا يمكن القفز من فوق نظرية المؤامرة. فتش عن السبب.
فمنذ العام 2006 وجدت واشنطن أن النزيف الأميركي في العراق وأفغانستان يضعها أمام حقائق جديدة. أهمها أن غرق القوة الأميركية في مستنقع الشرق الأوسط أو غرب آسيا يصب في مصلحة إيران، مهدياً بذلك زمناً إضافياً وثميناً للقوى الدولية الصاعدة والمنافسة كروسيا والصين.
بينما الانفراج السياسي مع طهران سيفسح المجال لتفاهمات وظيفية في المنطقة. والانسحاب العسكري الأميركي الممنهج من المنطقة سيكون قيمة مضافة. من هذا المفصل تحولت قناعة الإستبلشمنت الأميركي إلى رغبة عند صانع القرار. نحن إذاً أمام مؤسسة أميركية لم تمانع في أن يرعى الرئيس أوباما التغيير المطلوب: التوجه نحو قارة آسيا.
هذا يعني أن كل الحركة السياسية للرئيس أوباما في الشرق الأوسط كانت تسير في اتجاه حصار القوى الصاعدة، وهي جمهوريتا روسيا الاتحادية والصين الشعبية.
وأهم تلك المسارات هي المفاوضات النووية بين إيران والخمسة + 1 التي توجت باتفاق إيران النووي. وما دون ذلك أو خلاله كله تفصيل، حتى الربيع العربي كان مجرد تفصيل، المهم تغلغل العم سام لمواقع في قارة آسيا لإتمام الحصار.
الهضبة الإيرانية...
للنفوذ الأميركي 3 نوافذ لقارة آسيا: منطقة أوراسيا (نقطة اتصال روسيا وأوروبا الشرقية)، هضبة إيران وجزر المحيط الهادئ. عند الاقتراب من النافذة الأوراسية يطفو ميراث دموي على سطح الخريطة، حيث موروث الحربين الكونيتين الأولى والثانية والحرب الباردة بين الولايات المتحدة والسوفيت طاغ. ظلال الصراع والدمار لا تزال حاضرة وبقوة، مذكراً بالمخاطر الكبيرة التي تحيط بذلك الموقع. فجغرافيا منطقة جرمانيا (ألمانيا والنمسا وملحقاتها) وما تحمله من هواجس ستظل ثابتة في العقل الأمني لحاكم موسكو وواشنطن.
لذا ستبقى روسيا مناكفة مرات ومتآمرة مرات لصد أية محاولة للتسلل الأميركي. ولنا في القرم خير دليل في المناكفة، وفي سورية خير مثال في التآمر.
ولحماية مصالح أميركا لا بديل أمام واشنطن إلا تعزيز قدرات الحلف الأطلسي من دفاعية إلى هجومية. أما المحيط الهادئ، فأميركا بقوتيها الصلبة والناعمة على حد وصف المفكر الأميركي جوزيف ناي، نجحت في عبور البحر لصناعة حزام أميركي شبيه بالحلف الأطلسي على الجزر الآسيوية. استطاعت أن تصنع حلفاء على الجزر المطلة على الشاطئ الصيني، مثل اليابان وكوريا الجنوبية والفيليبين.
هناك رتبت واشنطن مجموعة اتفاقات ومعاهدات ثنائية ودولية عسكرية ومالية، مع هذه الحكومات كي تضمن دورانها في فلك أميركا. الدولة الوحيدة المغردة خارج السرب الأميركي هي كوريا الشمالية.
غير أن حصارها ممكن حيث بيونغ يانغ ليست في حال وفاق مع بكين أيضاً.
تبقى إيران الهضبة. المرتفع المطل على آسيا، أو موقع الرماة في ساحة المعركة في نظر العسكر. إيران بموقعها التي يدها اليمنى تطاول وسط آسيا، واليسرى تمسك بقلب العروبة النابض دمشق، وبطنها مفتوح وبشهية على الخليج العربي. من هنا جاء الاتفاق النووي الإيراني في نظر واشنطن. جاء من باب الحاجة الجيو الاستراتيجية وليس بناء على رغبة سياسية شخصية للرئيس. وحيازة طهران للتكنولوجيا النووية لم يكن يوماً العقبة أمام التفاهم، بل كان ممكناً التعايش معه إذا استرجعت إيران موقعها الجيوسياسي.
وإذا لم تسترجع طهران موقعها على الخريطة كأيام الشاه محمد رضا بهلوي، فالاتفاق معها مفيد أكثر من الخصام.
نصل إلى أننا نحن العرب، لنا الحق كله في الاستياء والغضب من سياسات واشنطن. أصلاً هذا الاستياء يمتد لعهود سبقت أوباما، غير أنه بالمقابل لنا الحق أيضاً أن نعترف بأن العالم العربي يحتاج أميركا بقدر ما تحتاج أميركا العالم العربي، وأكثر حبتين. وبينما يصرف البعض طاقته في البحث عن محطات أو تصريحات قد تشكل انعطافة في مسار الحركة التصحيحية الأميركية، أو عقيدة أوباما كما عنونت في مجلة «ذا أتلانتيك»، يجمع الكثير من الخبراء على أن استراتيجية واشنطن الجديدة ستظل ساكنة عقل ووعي أي إدارة أميركية مقبلة، ولمدة طويلة.
المقصود هنا أنه حتى وإن غير الرئيس أوباما نظرته السياسية تجاه الشرق الأوسط اليوم، فإن ذلك لن يغير الواقع.
أميركا قررت معلنة صياغة دورها الجديد في العالم من منظور مصالحها. هنا نقول فتش عن السياسة لا الشخص.